كان لوالدتي صندوق

icon1.gif
كان لوالدتي صندوق من الخشب القديم</STRONG>

بعد عام 1948 مباشرة وخروجنا مذعورين من بلدتنا حمامه وقيام دولة اسرائيل ، أصبحت أسرتنا غارقة وسط الفقر والحرمان ولم نجد الا أن نعيش في العراء تقريبا عند حافة بلدة الشيخ عجلين الواقعة عند ألأطراف الغربية لمدينة غزة عند شاطيء البحر. كانت حياتنا في تلك المنطقة خليطا من الشقاء والمعاناة اليومية وكانت صراعا حقيقيا من اجل البقاء بالنسبة لأسس الحياة الضرورية، وكانت المحاولات المضنية التي لا خيار فيها لأحد مستمرة. لم يكن لنا خيار سوى الذهاب الى البحر أو الى الأراضي المحاذية له من أجل أن نحصل على قوتنا اليومي. أما بلدة الشيخ عجلين فقد كانت فقيرة وعكس ما اصبحت عليه الان كونها التحمت بمدينة غزة الكبيرة بعد ان كانت قرية تعتبر نائية ومعزولة بكثبان الرمال التي كانت تفصلها عن مدينة غزة وحيث كانت تعيش في شبه عزلة. في أيام البرد القارص كنا نشرب بعضا من الشاي كل أسبوع تقريبا أو حوالي ذلك. أذكر أن والدي كان يعد الشاي على النار في ابريق قديم مصنوع من المعدن المطلي بالخزف المشوًّه من كثرة ما تعرض للنار وكان من الأشياء القليلة أو مما تبقى لدينا من أدوات بيتنا في حمامه.

كان والدي يضع ابريق الشاي على النار التي كان وقودها عيدان وأغصان الأشجار الصغيرة التي كان يشعلها أمام مدخل البيت، وكان يضع في الابريق الماء والسكر والشاي مرة واحدة، وكان ينتظر حتى يغلي الخليط وتلك كانت علامة نضوجه. كنت أحصل على كوب صغير من الشاي وكان للشاي وقع خاص وبهجة داخل الأسرة وكان أمتع وألذ ما كنا نتناوله من مأكل أو شراب في تلك الايام بل كنا نستعمله كغموس بدل الطبخ. كنا نشرب الشاي ان وجد في أكواب كانت تصنعها أمي من بعض الزجاجات الفارغة المتعددة الألوان، والتي كنت والأخوة عشوائيا نجدها أحيانا مصادفة على شاطيء البحر والتي كانت تقذف بها الامواج الى اليابسة وربما كانت من مخلفات المراكب المختلفة التي كانت تجوب البحر. كانت امي مثلا تاتي بالزجاجة الصغيرة وتأتي بقطعة قديمة من اي قماش وكانت تبللها بقليل من الكيرسين وتلفها حول النصف السفلي للزجاجة المطروحة على جانبها على الأرض ثم تشعل فيها النار، وخلال ثوان قليلة كانت أمي بآلة حادة أو بحجر تضرب برفق النصف العلوي من الزجاجة فتنكسر وتنفصل الى جزئبن هذا اذا كان العمل ناجحا. عادة ما كان ينكسر نصف الزجاجة العلوي وكان يدخل عامل الحظ ليقرر ان كانت العملية ناجحة أم لا. في اغلب الاحوال كانت تتكسر الزجاجة بطريقة غير منتظمة ولا تحصل أمي على شيء مفيد منها. وفي أحايين قليلة كانت توفق فتحصل على جزء متماثل من النصف السفلى للزجاجة الذي قد يصلح للاستعمال الا أن الأكواب ان توفرت بهذه الكيفية كانت بالطبع مختلفة الأحجام والالوان وحسب الزجاجات الأصلية التي كسرت أو قطعت منها. كانت نسبة الحصول على شيء مفيد بهذه الكيفية من محاولات أمي تقدًّر بعشرة بالمائة وفي احيان كثيرة كانت النسبة تساوي صفرا. من عشرة زجاجات مثلا كانت تعالجها أمي بالنار بكيفية ما سبق كانت تحصل أحيانا على كوب واحد لاستعماله لشرب الشاي وان كانت موفقة كانت تحصل على اثنين. وفي أوقات كثيرة كان الكوب الذي تحصل علية يشرخ فور أن يصب فيه الشاي الساخن لأن نوع الزجاجة الأصلية التي استخلص منها لا يصلح للسوائل الساخنة، ولهذا كان الوالد كثيرا ما يقوم برفع حرارة ألأكواب، وذلك بتدفئتها قليلا بواسطة تعريضها الى بخار الشاي المغلي قبل صب الشاي فيها . كنا نلتف حول الوالد ونجلس على الأرض الرملية، وكنا نبدأ بارتشاف كوب الشاي، وكنا ندفيء أيدينا بحرارته، وذلك بلمس السطح الخارجي للكوب الى أن نشعر بالدفء، وبعد ذلك نأتي على شربه كله، فننعم بحلاوته ونشعر بقليل من الدفء داخل أجسادنا.

وكنا نملك حمارا هزيلا أصابه الاعياء من قلة الأكل ومن الارهاق خلال هجرتنا من حمامه الى غزة بسبب الأحمال الثقيلة وقلة التغذية، وكنا نربط الحمار في وتد مثبت في الأرض أمام البيت. كان عندنا في تلك الأثناء بقرة، وكانت عزيزة وكانت أثمن ما نملك، وكانت مع الأمل فقط هي كل ما نملكه في الدنيا ، فقد كانت لأكثر من سبب تنام معنا داخل ذلك السكن الذي كان عبارة عن كومة من اغصان الاشجار مسقفة مع بعضها على شكل ليس له اسم لبيوت هذا الزمان ، وكان على شكل مستطيل حوالي خمسة امتار في ثلاثة امتار ينتهي بضلع بيضاوي من الخلف .

كان الثلث الداخي تقريبا من البيت مخصصا للبقرة والباقي للأسرة. لم نكن نملك أشياء كثيرة في تلك الأيام لان أشياءنا بقيت في حمامه وأصبحت صعبة المنال، وأتذكر أنه كان لدينا لوح معدني صديء من كثرة ما كان يتعرض كل يوم تقريبا للنار، وكان مصنوعا من الحديد الأسود وكان محدبا. كان هذا اللوح يستعمل لاعداد الخبز الذي كانت تقوم بصنعه والدتي على النار في الهواء الطلق، ولهذا كان هذا اللوح أو كما كنا نسميه بالصاج يترك عادة في موقعه قرب مكان اشعال نار الخبيز أو الخبز. كان لدينا أيضا حلة واحدة نحاسية لاعداد الطبخ، وكان طبيخنا شيئا متواضعا وكانت أهم مكوناته هو الماء مضافا اليه أيا من النباتات البرية التي كان الانسان يلجأ اليها اذا لم يتوفر ما اعتاد عليه أو بعض الحبوب الشائعة كالعدس.

أذكر أننا كنا نفتقد الى ملح الطعام في بعض المواسم لأننا كنا نستهلكه كثيرا، وكان شيئا عاديا في الصباح أن نستعمله كغموس وحيد أساسي لنا مع الخبز. لقد كان شيئا عاديا أن نأخذ لقمة من الخبز ونضع فوقها حفنه من الملح ونبدأ الأكل، وكان هذا لذيذا لأن في أغلب الأحيان لم يكن الخبز متوفرا، وحتى الملح في تلك الأيام مرت علينا فترة لم نجده وهنا اذكر للتاريخ بأننا كنا نضيف قليلا من ماء البحر الى حلة الطبخ وهي على النار عوضا عن الملح الذي لم يتوفر في تلك الاثناء.

كنا نقضي الساعات الطوال منتظرين حتى تخبز أمي في المساء لتجتمع الأسرة ونتناول الوجبة الرئيسية معا. وكانت أمي كثيرا ما تخفي بعض أرغفة الخبز منا نحن الصغار حتى لا يزيد استهلاكنا،، كنا نملك أيضا بعض الأغطية التي تستعمل للنوم وكنا ننام على حصير قديم. وكنا نملك أيضا بعض الادوات المنزلية البدائية البسيطة والقليلة، وكان لدينا ربما جرة واحدة من الفخار وكذلك شيء متسع من الفخار ايضا اسمه " لقّانْ " لاعداد العجين فيه، وكان عندنا أيضا ابريق مصنوع من الفخار للشرب. كان لوالدتي صندوق من الخشب القديم وكان عزيزا عليها لأنها كانت تحفظ فيه أشياءها الشخصية، ولأنه كما عرفت كان أول ملكية لها عند الزواج، ولهذا فقد حملته على رأسها خلال ضنك الهروب من حمامة وأحضرته الى غزة..

"المحنة لم تنته
 

Lisianthus

كاتب جيد جدا
رد: كان لوالدتي صندوق

محنه عصيبه لا يشعر بها سوى من مر بها

لكن فيها دفأ رغم البرد والجوع وهذا ما يميز أهل بلدنا العظيمه
وس
طرح رائع موفق بإن الله أنتظر تتمت القصة بفارغ الصبر
 

عاشقه الصمت

كاتب جيد جدا
رد: كان لوالدتي صندوق

هذه قصه من الالاف من القصص الدافئه ..على الرغم من عريها من كل ما يسبب الى الدفيء
..لكل شيء على ارضنا طعم اخر ..للفرحه لونها ..وللمشقه لونها ..وللعذاب لونه..وللصبر لا لون ولا حدود..

شكرا كتيـــــــر..المارد الفلسطيني..على هذه الكلمات المتسلسله لترسم لنا جزيء من صوره واقع هذه الارض الطاهره
..فلسطيـــــــــــن..
 

ملائكة الحب

مُديّرْ المُنتَدىَ
رد: كان لوالدتي صندوق

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
 

مواضيع مماثلة

أعلى