أحبُكِ. احبُكِ رُغمَ ظلمِك الجائر, رُغم طرديْ وإجباريْ على الرحيل. اختلستِ حريتي وقتلتني حتى الصميم، إلا أنني احبُكِ. أ أقولُ وداعاً؟ أ أقولُ باعت البصرى زنجَها وأجرتْ يثرب قرآنَها ليهودِ خيبر؟ أم أن النيلَ ضلَّ طريقَه ويصبُ جنوبَ البحرِ الأحمر؟؟ أ أقولُ رحلةً جديدةً أم المنفى من جديد؟ رُغمَ هذا ورُغمَ ذاك, تبقى بأحضانِك ذكرياتُ الطفولة وتبقى في افيائِك الحبيبةُ الأولى وتبقين المسافةُ الفاصلة ما بين الفضيلةِ والسماءِ وتبقين دوما ما بقيتُ يا مدينتي.
ما بين المنفى والوطن رحلةٌ قصيرة. بين الوطنِ والمنفى جراحٌ ألامٌ وغربةٌ. الوطنُ قلعةٌ سندسيةٌ خضراءَ، أبراجُها المتلألئةُ في ضوءِ الشمسِ تبهرُ الناظرين. تجاورُ النهرَ والبحيرةَ, مأسورةٌ خلفَ حرابِ الحراسِ وخلفَ الأسوارِ الحديدية، لكنها شامخةٌ رُغمَ أنوفِ العسكرِ ورُغمَ ركلاتِ أحذيتِهم وقعقعةِ السلاح.
الوطن؟ أولُ بسمةُ حبٍ من عذراءِ عاشقةْ واحمرارُ الخدين خجلاً من قطافِ القبلةِ الأولى. الوطنُ رحلةُ الشمسِ في شعرها الأسودِ الطويلِ وبريقُ عينيها في ضوءِ القمر. والوطن .. أخرُ دمعةٍ نزفتها أمي يومَ الرحيلِ إلى المنفى.
والمنفى؟ المنفى قاربٌ بلا شراع, رحلةُ عذابٍ وألم. جزيرةٌ موحشةٌ وبسمةٌ لا صدى لها، تضيعُ في وادٍ عميق. المنفى أغاني الذكرى والبحثُ عم مجذاف لقاربٍ يغرق. والمنفى جرحٌ لاينتهِ وضبابٌ أرى من خلالِه وجهَ أمي وكعكَ العيدِ الكبيرِ وترددَ نداءِ المصلينَ "الله أكبر كبيرا".
وأمي؟ دمعتي الأبدية، قلبٌ نابضٌ بالحب, بسمةُ أملٍ وشفةٌ ترتجفُ بالدعاءِ في الوداعِ الأخير. أمي قبلةٌ ونحيبٌ ثم أنفاسٌ تعلو وتهبطَ لتهبني الحياةَ والأملَ الوحيد. أمي لقاءُ الربيعِ بشقائقِ النعمانِ وهمسةٌ حلوةٌ عندَ كلِ صباح. أمي دفءُ الحنانِ وفنجانُ القهوةِ الصباحيةِ والأمان.
اشتاقُ إليك يا أمي والى قبلةِ الصباحِ. اشتاقُ إلى دعائِك الأبدي والى كعكِ العيدِ وضوءِ الشموع.
والحبيبة؟ سوادُ الليلِ يمتدُ في شعرِها. عيناها امتدادُ الشواطئ في نفسي والحاجبان سيفان يذودان عن البراري وقلبُها مهجعُ روحي وملجئي الأخير. حبيبتي مسكنُ راحتي الأبدية نصفيَّ المضيءُ في العتم منارةُ الميناءِ وشراعُ السفينةِ الاخير