أقدم لكم اليوم فنانا ... غنى رغم الوجع الذي يشتد والقهر الذي يلتف حبلا على العنق ليطوي رقاب الناس مهانة .... حقيقة أنا لا أقدمه لكم فهو ليس بحاجة لمن يقدمه ففنه كفيل بذلك ... لكني أحاول أعطاءه حقه وسط هذي الزحمة الخانقة ... وسط هذه الأصوات القاتلة التي تحمل كل شيء سوى المعنى والقيمة والمبدأ ... أقدم لكم الإنسان المؤمن بالقضية، المناضل باللحن والكلمة ... فنان عرفناه جميعا في مناسبات الاجتياحات عبر الأثيرات المحلية من خلال أغانية الوطنية المشبعة بمشاعر القهر والثورة ومن خلال ألحانه الملتزمة ... غني للأرض وللوطن وغنى للفقر والقهر ... وغنى للمبدأ وغنى للحبيبة ... الإنسان الفنان مارسيل خليفة ........
ولد مارسيل خليفة عام 1950 في عشميت، القرية اللبنانية الواقعة على هضبة فسيحة شمالي محافظة جبيل، حيث أشجار السنديان و الصنوبر تظلل نهري بعشتا و الفرطوش، و حيث الشاطيء يحتضن السهل و يُسَورُه الجبل، و الميناء الصغير يودع الصيادين صباحا، ليستقبلهم مساء بالشفق و يحضنوه بالأغنيات. كان والده ميشال خليفة يعمل سائق أجرة في القرية ليوفر العيش لأسرته المكونة من زوجته ماتيلدا و أبنائه مارسيل و أنطوان و شقيقاتهما الأربع. و كانت عشميت تعرف تمايزا واضحا بين الناس، فمن جهة كانت هنالك قلة من الإقطاعيين الذين ورثوا الأراضي عن أيام حكم العثمانيين و ورثوا معها لقب "البكوات"، و من جهة أخرى كان الفقراء الذين يُدعون "العرمط"، و إلى هؤلاء تنتمي أسرة خليفة.
كانت ماتيلدا تحمل معها ابنها مارسيل إلى الكنيسة، فيُسَر كثيرا بسماع التراتيل الكنائسية. كما يسر بسماع صوت الآذان القادم من مئذنة في كفر سلا القريبة من عشميت، و بصوت الأرمونيوم الطالع من مدرسة الفرير. و في مساءات عشميت الصافية ينتظر مع الآخرين عند الميناء عودة البحارة و هم يغنون من بعيد
في الأعياد، كان ميشال يستضيف بعض الغجر الذين يَعبرون الضيعة. و مقابل بعض القروش يعزفون و يغنون في حين ترقص غجرية جميلة. و في الأماسي تجتمع الأسرة لتستمع إلى أغاني محمد عبد الوهاب الطالعة من الفونغراف القديم مصحوبة بالكثير من الخشخشة، و لتغني رفقة الجد يوسف الذي كان صيادا و فنانا معروفا في عشميت، يغني و يعزف على الناي و يرقص الدبكة. كان مارسيل يحب جده كثيرا لحنوه و مرحه و ولعه بالموسيقى:
" كنت طفلاً آنذاك لا أتجاوز الخامسة من عمري, أقفُ على عتبة القبو ألعب بطابةٍ صغيرة، وانتظر جدي يوسف في زيارته اليومية لنا، وعندما أسمع رندحة العتابا والميجانا من بعيد أترك الطابة وأركض مسرعاً باتجاههِ أتعربش على أكتافهِ العريضة، و وجهاً لوجه أمام طربوشه الأحمر، فأمسك الشرابة التي كانت تتدلى على النقرة من الخلف وأبدأ بهزها يميناً ويساراً مع إيقاع أغنية سكابا يا دموع العين سكابا".
و قد لعب الجد دورا هاما في توجه حفيده إلى الموسيقى: "بدأت مع الموسيقى والوتر صغيراً حيث كان صوت رنة وتوتر خيط قصبة صيد جدي على كرسي الخيزران يمثل الصدى الأول لتجربتي ، مع الصوت واللحن،ومنذ ذلك الزمن البعيد وأصابعي تداعب الأوتار".
في المدرسة كان مارسيل يستاء من الأناشيد التي تلقن للأطفال، لأنها تبدو له رتيبة و خالية من الحياة، فكان ينتظر الوقت الذي يلتقي فيه بأصدقائه في الحي عند قناة المياه الممتدة من نهر إبراهيم، حيث يغنون أغاني رائجة، و يلعب هو دور قائد الأركسترا مرتجلا مجموعة إشارات لم يكن أحد يلتزم بها. ثم في البيت كان الفتى المولع بالأنغام يكمل أمسياته بالتطبيل على كل ما تقع عليه يده حتى ضاق منه الأهل، غير أن ماتيلدا انتبهت لموهبة طفلها، و طلبت من زوجها ميشال أن يشتري لابنهما آلة موسيقية.:
" أتساءل أحيانا ما الذي كنت سأفعله لو لم تدرك أمي آنذاك مع طفولتي الأولى جنون أصابعي بحيث أقنعت والدي بأن يشتري لي آلة موسيقية"
يتبع //
ولد مارسيل خليفة عام 1950 في عشميت، القرية اللبنانية الواقعة على هضبة فسيحة شمالي محافظة جبيل، حيث أشجار السنديان و الصنوبر تظلل نهري بعشتا و الفرطوش، و حيث الشاطيء يحتضن السهل و يُسَورُه الجبل، و الميناء الصغير يودع الصيادين صباحا، ليستقبلهم مساء بالشفق و يحضنوه بالأغنيات. كان والده ميشال خليفة يعمل سائق أجرة في القرية ليوفر العيش لأسرته المكونة من زوجته ماتيلدا و أبنائه مارسيل و أنطوان و شقيقاتهما الأربع. و كانت عشميت تعرف تمايزا واضحا بين الناس، فمن جهة كانت هنالك قلة من الإقطاعيين الذين ورثوا الأراضي عن أيام حكم العثمانيين و ورثوا معها لقب "البكوات"، و من جهة أخرى كان الفقراء الذين يُدعون "العرمط"، و إلى هؤلاء تنتمي أسرة خليفة.
كانت ماتيلدا تحمل معها ابنها مارسيل إلى الكنيسة، فيُسَر كثيرا بسماع التراتيل الكنائسية. كما يسر بسماع صوت الآذان القادم من مئذنة في كفر سلا القريبة من عشميت، و بصوت الأرمونيوم الطالع من مدرسة الفرير. و في مساءات عشميت الصافية ينتظر مع الآخرين عند الميناء عودة البحارة و هم يغنون من بعيد
في الأعياد، كان ميشال يستضيف بعض الغجر الذين يَعبرون الضيعة. و مقابل بعض القروش يعزفون و يغنون في حين ترقص غجرية جميلة. و في الأماسي تجتمع الأسرة لتستمع إلى أغاني محمد عبد الوهاب الطالعة من الفونغراف القديم مصحوبة بالكثير من الخشخشة، و لتغني رفقة الجد يوسف الذي كان صيادا و فنانا معروفا في عشميت، يغني و يعزف على الناي و يرقص الدبكة. كان مارسيل يحب جده كثيرا لحنوه و مرحه و ولعه بالموسيقى:
" كنت طفلاً آنذاك لا أتجاوز الخامسة من عمري, أقفُ على عتبة القبو ألعب بطابةٍ صغيرة، وانتظر جدي يوسف في زيارته اليومية لنا، وعندما أسمع رندحة العتابا والميجانا من بعيد أترك الطابة وأركض مسرعاً باتجاههِ أتعربش على أكتافهِ العريضة، و وجهاً لوجه أمام طربوشه الأحمر، فأمسك الشرابة التي كانت تتدلى على النقرة من الخلف وأبدأ بهزها يميناً ويساراً مع إيقاع أغنية سكابا يا دموع العين سكابا".
و قد لعب الجد دورا هاما في توجه حفيده إلى الموسيقى: "بدأت مع الموسيقى والوتر صغيراً حيث كان صوت رنة وتوتر خيط قصبة صيد جدي على كرسي الخيزران يمثل الصدى الأول لتجربتي ، مع الصوت واللحن،ومنذ ذلك الزمن البعيد وأصابعي تداعب الأوتار".
في المدرسة كان مارسيل يستاء من الأناشيد التي تلقن للأطفال، لأنها تبدو له رتيبة و خالية من الحياة، فكان ينتظر الوقت الذي يلتقي فيه بأصدقائه في الحي عند قناة المياه الممتدة من نهر إبراهيم، حيث يغنون أغاني رائجة، و يلعب هو دور قائد الأركسترا مرتجلا مجموعة إشارات لم يكن أحد يلتزم بها. ثم في البيت كان الفتى المولع بالأنغام يكمل أمسياته بالتطبيل على كل ما تقع عليه يده حتى ضاق منه الأهل، غير أن ماتيلدا انتبهت لموهبة طفلها، و طلبت من زوجها ميشال أن يشتري لابنهما آلة موسيقية.:
" أتساءل أحيانا ما الذي كنت سأفعله لو لم تدرك أمي آنذاك مع طفولتي الأولى جنون أصابعي بحيث أقنعت والدي بأن يشتري لي آلة موسيقية"
يتبع //