لادمان على النقد والكلام

صياد الطيور

كاتب جيد

( المداخلات )
ربما لا يكون الوصف مناسباً لإنسان مستقيم، فقد تعوَّد بعض الناس استخدام لفظ الإدمان لأمور وخصائص غير مناسبة مثل: الإدمان على المخدرات أو المشروبات الكحولية أو التدخين أحياناً، حمانا الله سبحانه وإياكم منها. ظهرت استخدامات أخرى في السنوات الأخيرة لمصطلح الإدمان فيشير الباحثون إلى إدمان استخدام الشبكة البينية (إنترنيت)، وساوى ابن سيناء بين الدوام على المدامة وغيرها من السلوك الآخر بما في ذلك إدخال الطعام على الطعام أو إدمان الأكل، لما لهذه الأمور من أثر سلبي. وقد توسع بعض الناس في استخدام الإدمان فيقولون ان الشخص أو فلاناً مدمن على الكتابة أو على القراءة أو مدمن على السفر أو على السهر أو مدمن على أكل التمر، لتكرار ذلك الفعل ربما بدون مبرر أو للمبالغة في وصف خاصية أو إظهار لما تعود عليه إنسان أو أشخاص. يشير المعجم إلى أن إدمان الشيء هو التعود عليه وعدم الإقلاع عنه.
أما المداخلات، أو ما تعود بعض الناس بتسميتها قبل سنوات بالتعليق على المحاضرة المعروضة في صالة، أو التعليق على فكرة أو مادة أو بند أو توصية معروضة على مجلس أو لجنة أو موضوع مطروح للنقاش في وسيلة إعلامية كالجريدة أو الإذاعة أو الفضائيات التلفزيونية، فقد تطورت أساليبها وأماكنها ووسائل إدخالها. يُشار إلى التعليق أحياناً بالمشاركة فيقال بأن لدى فلان مشاركة في موضوع النقاش أو مساهمة أو مداخلة أي أنه له في ذلك رأى أو قول، أو يود، كما يقول بعض الشباب، أن يدلي بدلوه في الموضوع، ولا أدري أيغرف مما سمع أو يَعبُّ منه أو ليفرغ عليه ما يعرف.
سألت أحد الزملاء من أساتذة اللغة العربية عن معنى المداخلة التي لم أجد لها في بعض معاجم اللغة العربية ما يشير إلى أنها تدل على المقصود منه في هذا المقال، فقال بأنها من العبارات الحديثة على المشرق العربي والتي استخدمها أهل المغرب العربي ويسرت وصولها إلينا الاتصالات والتقنية الحديثة، وفي المقابل أوصلت إليهم عبارات مشرقية أخرى.
يشير بعض المثقفين في المؤتمرات أو الاجتماعات أو المحاضرات العامة أو التخصصية إلى أن الأستاذ فلان أو الدكتور علان مدمن مداخلات، فتجده يعلق على ما قيل بالنقد أو الإشادة أو بالعرض أي يقول ما قيل أو يشرح الواضح أو يفسر الماء بالماء أو غير ذلك من الصور. تحتوي الفضائيات العربية للتليفزيون برامج تعتمد كلياً على مداخلات المشاهدين، وتبعتها في ذلك بعض الإذاعات العربية وأصبحت تنافس في هذا الاتجاه الفضائيات المرئية والمسموعة في خارج العالم العربي. ففي شرقنا العربي وأسوة بالعالم الغربي تتكرر المداخلات والمشاركات من فئات معينة، وربما يلحظ المراقب أن صاحب المداخلة معروف لمقدم البرنامج وربما لمقدمي كثير من البرامج، كما قد يكون المداخل (زبوناً) لأحد المحطات العربية الإذاعية أو التلفزيونية، وقد يكون (زبوناً) لبرامج إذاعة بعينها أو محطة تليفزيونية بذاتها.
يشير بعض أعضاء المجالس واللجان أو الندوات بأن لديهم مداخلة أو يطلب أحدهم إعطاءه الكلمة ليشارك أو ليساهم بمداخلة، ويقصد بذلك إعطاءه لاقطة الصوت ليعطي أو يسمع كلمات لغيره، ويفرق بعض الأعضاء بين المداخلة والمشاركة، ويرى بعضهم أن المشاركة هي الاشتراك فيما هو مطروح وإقرار بعضه، أما المداخلة فهي رأي المتحدث وفكرته التي قد تتفق أو تختلف وقد تؤكد أو تعارض، ولعلهم يرون أن المداخلة أشمل من المشاركة.
تتضمن المداخلات في الاجتماعات أو الجلسات، عدا النقد الشديد، والإشادة المبالغ فيها، وتسجيل المواقف، والآراء البناءة والقصص، والحكم، والأبيات الشعرية، والتصويبات اللغوية لأخطاء الآخرين، وقراءة النصوص، أموراً كثيرة أخرى تستحق الرصد والتحليل أحياناً. كما قد تحتوي، هذه المداخلات، على التأكيد على ما ذكره المتحدث نفسه، أو التقليل من قيمة الموضوع جملة وتفصيلاً، أو من بعض الأفكار الواردة فيه. قد تحتوي المداخلة على عبارات المشاركة بها أو المدمن عليها، دون أن تحمل رأياً أو تشير إلى سؤال أو تضيف معلومة أو تبرر فكرة أو تنقض طرحاً، يحاول بعض المداخلين استعراض قدراتهم على التحدث حتى ولو لم تسعفهم لغتهم على التعبير السليم، ولم يمكنهم أسلوبهم من الطرح الجيد لأفكارهم. كما قد يقدم الشخص مداخلة لا يريد منها سوى أنه موجود ولا يود سوى أن يسمع صوته في المذياع أو من خلال التلفزيون أو عبر مكبرات الصوت في المؤتمرات أو الندوات.
يصر بعض المدمنين على المداخلات، وخاصة في المجالس واللجان الكبيرة والاجتماعات، على المساهمة بأي مداخلة مهما كان الموضوع ومهما كانت قيمة الفكرة المعروضة، وقد ينتقدون صياغة عبارة، وربما يعرضون عوضاً عنها تعبيراً أسوأ لغوياً وأقل وضوحاً. يعتقد بعض المداخلين، في مناقشة الموضوعات ذات الفقرات أو المواد أو العناصر، بأن لهم الحق بالتعليق على كل مادة فيه حتى ولو اكتفوا احياناً بالقول أنها مادة جيدة أو عبارة ملائمة أو محكمة، أو أكدوا بأن هذه العبارة تؤدي الغرض الذي وضعت من أجله أو أن الموضوع مناسب في صياغته، وربما قدم أحد المداخلين رأياً مُوجزه بأن الموضوع أو فقرة منه، لا غبار عليه أي مناسب، وكأن على بقية الفقرات غباراً.
يتسرع بعض مدمني المداخلات بالإشادة بفقرة أو مادة يكتشف بعد ذلك سوء تقديره من مداخلت زملائه، فيجد أنه أشاد بما لا يستحق، وأسبغ صفات الكمال على الناقص وأشار بالمناسبة إلى غير المناسب وبالمحكم إلى عبارة مهلهلة غير متجانسة، وربما لا تؤدي معنى ولا تفيد حكماً ولا تحمل خبراً. وفي المقابل قد يبدأ أحد المداخلين بالهجوم وينقد العبارة وصياغتها والفكرة ومفهومها، وقد يتساءل عن كثرة حروف الجر فيها، ويبدي تعجبه ويعبر عن استنكاره لأن الجملة لم تبدأ بفعل عوضاً عن المبتدأ. قد يرى صاحب مداخلة أنه لا مانع أن يُكتب "تؤكد اللجنة على .." عوضاً عن "التأكيد على.." أو استبدال "التوصية بالتالي.." بـ"التوصية بما يلي..". قد يبالغ بعض مدمني المداخلات بالتعليق على كل كبيرة وصغيرة ويضرب أمثالاً ويردد أبياتاً شعرية وربما خرج عن الموضوع وداخل على مداخلته دون أن يدري.
ونجد كذلك أن بعض مدمني المداخلات ينتقدون، فهم بالإضافة إلى إدمان المداخلة لديهم إدمان النقد، ولربما انتقدوا ما لم يفقهوا، وإذا لم يجد الشخص ما ينتقده أصر على ضرورة إعادة النظر في الترتيب، أو حك رأسه ليأتي بمثال معاكس لا تشمله الفقرة وكأن التنظيمات أو الأوامر أو التوصيات تركز على العناصر الشاذة والعوامل الحديثة. قد يجتهد أصحاب الأمثلة المعاكسة بوصف حالة تحت ظروف وشروط لا يمكن أن تحدث إلا على سطح القمر وخارج القوانين الطبيعية المتعارف عليها لأغلب البشر.
الجدير بالذكر أن موضوع الأمثلة المعاكسة (counterexamples) وهو أن يأتي المُفكر أو الباحث بحالة تكسر القاعدة أمر مهم. يعتبر هذا الموضوع في الرياضيات وعلومها من أقوى البراهين ومن أقدر الإثباتات التي يُعتدّ بها ويعتز بها أصحابها، ولكن لا ينطبق ذلك على الأمور الاجتماعية أو التوصيات الإدارية أو اللوائح التنفيذية أو التنظيمات أو التعليمات أو الأوامر أو النواهي أو حتى بعض الأدلة الإرشادية أو النماذج العملية، بل قد يصعب تعميم هذا الحكم في كثير من أمورها. توجد في الرياضيات كُتب لا تحوي سوى الأمثلة المعاكسة وكذلك في تقارب الاحتمال وقد ينال بعضهم على أمثلتهم جوائز وتنتشر هذه الأسئلة في الدوريات العلمية ويعتز الممثلون بمعاكستهم والمعاكسون بأمثلتهم.
لا يمكن الاستشهاد كثيراً بالأمثلة المعاكسة في نقض مفاهيم أدبية أو نظريات اجتماعية أو أفكار فلسفية أو حتى بعض القواعد اللغوية فعبارة "لكل قاعدة شواذ" صحيحة في كثير من المواضع.
يمكن في الأمور السابقة وفي كثير غيرها من إيراد أمثلة معاكسة لا محل لها من النصوص الشائعة أو القواعد العامة أو الأنظمة أو التعليمات. ولا يمكن في ظني أن تصف مفهوماً أو قاعدة بالقصور إذا لم نتحدث عن أغلب، وليس كل، شواذ حالاتها وتبين أنها لم تغط كل فروعها ولا تشمل كل ما خلاها ولم تشر إلى ما عداها. كما لا توجد قرارات أو توصيات أو أنظمة بشرية محكمة (ما تخرّش الميّا). ولكن الحكمة تكمن في مراجعة كل توصية أو قرار ومتابعته ورصد سلبياته، ويخطئ المسؤول أو الموظف أو المجتهد في بحثه عن التوصية المثلى والقرار الأمثل وعليه معرفة أنه لو بحث عن قرار مثالي وتوصية مثالية فإنه سيجد أفضل منها. كما أن المثالية في الحل أو العمل نسبية فقد يكون الأمثل من أفضل الحلول أو من أقلها سوءاً أو من أقربها لواقع الحال والتعامل مع أغلب وليس كل ما يخطر على البال.
لقد لاحظ كثير من الباحثين والعلماء أهمية الدقة في الوصف أو التقعيد أو التنظيم لكل الأمور العلمية بل أن بعض العلوم تتكون من مجموعة من القواعد والنظريات التي لا تترك واردة ولا تغض الطرف عن شاردة مثل: علوم الرياضيات والفيزياء والإحصاء وبعض فروع الهندسة. كما يستحسن أن يقعد الإنسان أمور حياته وحتى علاقاته بغيره ولكن لا يمكن أن تضع قائمة من التعليمات أو العوامل التي لا يمكن أن تحيد عنها.
لكل ما سبق نلحظ إمكانية أن يتحدث الإنسان عن أي شيء وفي أي وقت، إن هو لم يؤكد على المنطق الذي يحكم الأمور الحياتية مهما كان مجالها وبغض الطرف كلياً أو جزئياً عن نطاقها. قد يتساءل أحدنا عن مدى استعداد المجتمعات على تشخيص الإصابة بإدمان المداخلات ومناقشة أسلوب علاج ذلك، والعمل على الحد من أعراضه الجانبية الأخرى.
الإكثار من المداخلات حتى وإن لم تكن طويلة ظاهرة مرضية، وإصرار بعض الحاضرين من أعضاء المجالس واللجان التعليق على كل صغير وكبيرة، والتعليق على رأي كل من تحدث قبله ومن سيتحدث بعده أمر لا يطاق، لا يجب أحياناً شد الانتباه لفكرة عابرة ذكرها زميل في الاجتماع ولم تكن موفقة وقد تشعر من خلال حديثه تراجعه عنها أو ايراده بديلاً لها أفضل منها، وبالتالي لا يوجد ما يبرر أن تخالفه فيما تراجع عنه أو عدله. يستعرض بعض المدمنين على المداخلات كل الآراء ولا ترى أن لهم رأياً فيما رأى غيرهم وكأنهم بذلك يشعرون الحاضرين بقدرتهم على استرجاع الآراء وتخزينها. يحاول بعض المدمنين على المداخلات تفسير النصوص الواضحة ويتبعون في ذلك المثل القائل وفسر الماء بعد الجهد بالماء. يؤكد بعض أصحاب المداخلات على ضرورة التقديم والتأخير في التوصيات أو القرارات حتى وإن كان توجهها لمجلس أعلى أو مسؤول أولى بالصلاحية أو القيم على المؤسسة. كما يصر هؤلاء الأعضاء على أن تكون التوصية شاملة والقرار مبرر ومسبب ومعلل، ويحتوي على الأمثلة وكأن الموضوع موجه لصاحب قرار لا يفقه لغة ولا يدرك نصاً وغير قادر على فهم الأمور على حقيقتها وغير ملم بالمصالح العامة والخاصة.
تقوم أغلب المجالس وكل اللجان تقريباً بدور استشاري ولا يعد قرارها نهائياً إما لربطها بمجلس أعلى أو لجنة أقوى لاعتماد توصياتها أو لضرورة مصادقة مسؤول مخول بتنفيذ هذه التوصيات، وقد يكون لصاحب السلطة الأعلى أو الأقوى أو المسؤول حق النقض. ويكون حق النقض حسب اجراءات محددة مثل إعادة القرار بعد الاطلاع عليه ومن ثم الاعتراض في فترة محددة أو في أي وقت ويتم إعادة النظر فيه مرة أخرى وقد يكون حق النقض مطلقاً.
لا يدرك بعض مدمني المداخلات أنهم بذلك يزيدون من أعباء مجالسهم ولجانهم بدون مقابل في النتيجة، ولا يتعلم المدمنون من أنفسهم فمع تكرار مداخلاتهم وعدم تأثيرها دائماً، أو في أغلب الأحيان على تغيير أي نص أو تعديل أو اقتراح إلا أن لهم مداخلة بعد ذلك، قد يغبطهم زملاؤهم على صبرهم غير المحدود في تجاهل غيرهم لمداخلاتهم، وعلى روحهم الرياضية في تجاوز مشاركاتهم، وعلى مثابرتهم.
يطيب لرؤساء بعض المجالس واللجان وجود مدمني مداخلات وذلك لإحياء النقاش وإنعاشه ولتضخيم الموضوعات وإعطائها سمعة أكبر ولاستخدام ذلك في تطويل بعض الجلسات وفي تكرار انعقادها. قد تلمس في المقابل تذمر رئيس الجلسة من تعدد مداخلات بعض الأعضاء لأنهم يشتتون في مداخلاتهم الأفكار. يعيب مدمنو المداخلات على المقلين فيها أو الصامتين لعدم تفاعلهم مع جدول الأعمال، ويعدون ما يقومون به شجاعة ومشاركة وربما تبرير لاستلام المكافأة على الجلسات أو استلام الراتب الذي شمل ضمناً مكافأة عضـــوية المجالس واللجان.
يختصر بعض مدمني المداخلات مشاركاتهم، أحياناً، فيما لا يزيد عن سطرين ولذلك يمكن لزملائهم تحملها مع تكرارها، ولكن بعضهم يطيل ويعيد ويفتتح بمقدمة ويختم بعبارة في كل مرة يتيح له رئيس الجلسة المجال للحديث. بفقد بعض مدمني المداخلات تأثيرهم بكثرة مداخلاتهم وربما يتضجر غيرهم منها مع احتواء بعضها، وإن كان نادراً، على آراء قيمة وأفكار جيدة ومساهمات بارزة.
يظل المدمنون على المداخلات في أي مجلس أو أية لجنة قلة، ولكنهم يمثلون ظاهرة تستحق الدراسة، كما لا يخلو أي مجلس أو لجنة من حكماء وعلماء وخطباء ومتحدثين ومعلمين وأهل فكر.. سنأتي إلى الحديث عنهم في مناسبة أخرى.
 

آنفآس آلمطر

كبار الشخصيات
رد: لادمان على النقد والكلام

طرح جدا قيم صياد
فعلا مثلما ذكرت لاتخلو المجالس من علماء وفقهاء وعظماء
ولكن مداخلتهم تكون مقتضبة ومختصرة وقيمة اكثر
من اي مداخلة من هؤلائك المتملقين
كن بخير اخي
احسنت ..
اخيرا مش مكرر :psmiley:
 

طروااد

كاتب جيد جدا
رد: لادمان على النقد والكلام

مشاء الله تبارك الله
والله كلام جميل
مع انه في بعض الاحيان يكون في ذلك الادمان منفعه ،، ولكن على وجه العموم كما تفضلت هو عبئ ..
تحياتي لك
 
أعلى