عمرو بن العاص

مالك محمد

كاتب محترف

عمرو بن العاص .. السفير الأمين

محمود شيت خطاب

11:00-2018/02/19
  1. ملخص المقال

    كان عمرو بن العاص رضي الله عنه نِعْمَ السفير في الجاهلية والإسلام؛ وذلك لما كان يتميز به في سفارته من صفات وأخلاق، ولشخصيته الرائعة التي لا يتكرَّر
عمرو بن العاص .. السفير الأمين






  1. عمل عمرو بن العاص رضي الله عنه سفيرًا في عهدين متناقضين: عهد الجاهلية، وعهد الإسلام؛ فقد كان سفيرًا لمشركي قريش إلى النجاشي ملك بلاد الحبشة في الجاهليَّة، وأصبح سفيرًا من سفراء النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد إسلام عمرو رضي الله عنه، وبعد أن حسن إسلامه.

    عمرو بن العاص سفير قريش إلى الحبشة
    كان عمرو رضي الله عنه في جاهليَّته من أشدِّ النَّاس عداوةً للذين آمنوا، وقد قصد بلاد الحبشة مرَّتين سفيرًا لمشركي قريش؛ في محاولةٍ لتسليم المسلمين -المهاجرين إلى بلاد الحبشة- إلى قومهم مشركي قريش ليفتنوهم عن دينهم، وكانت سفارته الأولى إلى بلاد الحبشة بعد هجرة المسلمين إليها في السنة الخامسة من النبوَّة، وكانت سفارته الثانية إلى بلاد الحبشة بعد غزوة الحديبية التي لم يشهدها عمرو رضي الله عنه ولم يشهد صلحها، وكانت سفارته هذه في أواخر السنة السادسة الهجرية، أو أوائل السنة السابعة الهجرية، فأخفق عمرو في إغراء النجاشي بالهدايا الثمينة، والكلام المعسول، ومحاولة إبراز التناقض بين عقيدة النجاشي المسيحية وعقيدة المسلمين المهاجرين، وبخاصَّة في المسيح عليه السلام.
    وقد بذل عمرو رضي الله عنه قصارى جهده في سفارتيه ليجعل النجاشي رحمه الله مع مشركي قريش على المسلمين المهاجرين إلى بلاده، ولكنَّه أخفق في مسعاه إخفاقًا كاملًا على الرغم ممَّا بذله من جهودٍ مضنيةٍ من أجل تحقيق هدفه، ولم يكن عمرو يتوقَّع أن يُخفق في مسعاه، ولا كانت قريش تتوقَّع إخفاقه؛ فقد بذل عمرو رضي الله عنه كلَّ ما يستطيع بشر قادر ذكي بذله؛ من هدايا، ومحاورة، ومداورة، وإقناعٍ دون جدوى، كما أنَّ مشركي قريش أوفدوا ألمع رجالهم، وأقدرهم، وأذكاهم، وأدهاهم، وأبرعهم حيلةً ومكرًا، فما استطاع أن يُغيِّر حال المسلمين المهاجرين من الأمن إلى الخوف، ومن الرَّجاء إلى القنوط.
    ويبدو أنَّ إخفاق عمرو رضي الله عنه في سفارتيه إلى أرض الحبشة جعله يُراجع نفسه من جديد؛ فقد حاول صرف الناس عن الإسلام فازداد إقبالهم عليه، وآذى المسلمين فازداد تعلُّقهم بالإسلام، ووضع العراقيل مع مشركي قريش ليحولوا دون هجرة المسلمين فهاجروا إلى الحبشة أوَّلًا، وإلى المدينة ثانيًا، وحاول أن يُؤذي المهاجرين في الحبشة فاشتدَّ عضدهم، وتضاعفت مكانتهم.
    وكما أخفق عمرو رضي الله عنه في محاولاته السلميَّة للصدِّ عن دين الله وإلحاق الأذى بالمسلمين، فقد أخفق عمرو رضي الله عنه في محاولاته الحربيَّة لهزيمة المسلمين، وتكبيدهم الخسائر المادِّيَّة والمعنويَّة، بل انهزم المشركون، وتكبَّدوا الخسائر المادِّيَّة والمعنويَّة، وعاد عمرو خائبًا بعد عناء، لم يُثمر جهده غير الإخفاق.
    وهكذا عانى عمرو رضي الله عنه إخفاقًا في محاولاته للصدِّ عن دين الله بالوسائل السلميَّة والحربيَّة، دون أن يدّخر وسعًا لإحراز النجاح أو شيء من النجاح في الحالتين، ممَّا جعله يعتقد أنَّ إخفاقه لم يكن نتيجة لتقصيره؛ بل نتيجة لقوَّةٍ قاهرة، فلم يكن صراعه بين قوَّته (بشرًا) وقوة المسلمين (بشرًا)؛ بل كان صراعه بين قوَّته (بشرًا) وقوة خالق البشر، لذلك توالت هزائمه وتعاقبت إخفاقاته دون تقصيرٍ منه، فأعلن إسلامه بعد يقينٍ ناتجٍ عن تفكيرٍ متَّصلٍ عميق، فكان إسلام عمرو كما وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ). ولا عجب أن يبلغ تفكير عمرو رضي الله عنه المتَّصل العميق أقصى مداه بالإسلام وانتصاراته المتوالية، والشِّرك وهزائمه المتوالية في أرض الحبشة وأمام النجاشي، فيُعلن إسلامه على يدي النجاشي كما تنصُّ على ذلك المصادر المعتمدة، ثم يعود إلى مكَّة، ومنها إلى المدينة مهاجرًا إلى الله ورسوله، ليُعلن إسلامه علنًا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أعلنه سرًّا أمام النجاشي في بلاد الحبشة.
    وكان انتماء عمرو رضي الله عنه -حين كان مشركًا- للمشركين من قريش خاصَّةً وللمشركين من العرب عامَّةً، وكان ولاؤه لقريش من أهــل مكَّة المكرمة، الذين ظلُّوا على شركهم ولم يُسْلموا، وكان إيمانه على ما وجد عليه آباءه وأجداده من عبادة للأصنام والأوثان، وما وجد عليه ذوي الأحلام من أشراف قريش، ثقةً بأحلامهم التي ضلَّت ضلالًا بعيدًا، فضلَّ كما ضلُّوا تقليدًا لا تفهُّمًا، وتعصُّبًا لا تعقُّلًا، والعقيدة بعد ذلك تخصُّ العواطف أكثر ممَّا تخصُّ العقول، وتُداعب الوجدان أكثر ممَّا تُقارب العقل، وما تَعْمَى الأبصار ولكن تَعمى القلوب التي في الصدور.
    ولكن عقل عمرو رضي الله عنه عمل عمله في كشف زيف الشرك، وتكشيف عبادة الأصنام والأوثان، فاكتشف نفسه بالعقل الذي ظلَّ يُحاوره، ويُداوره، ويُناقشه الحساب، حتى وجد أنَّ مكانه السليم ليس في صفوف المشركين؛ بل في صفوف المسلمين، وليس مع الشرك؛ بل مع الإسلام.
    وقبل أن يُسْلم عمرو رضي الله عنه كان انتماؤه للمشركين وولاؤه لقومه قريش لا غبار عليه، وكان مخلصًا في انتمائه صادقًا في ولائه، ومع ذلك -بالإضافة إلى كفاءاته الشخصيَّة المتميِّزة- أخفق في سفارتيه، دون أن يكون مقصِّرًا في مسعاه، ولكنَّه اقتنع أنَّه كان يُقاوم تيَّارًا جارفًا، لا يقوى بشرٌ على مقاومته، ولا يفلح، فآثر بحصافته وعقليَّته الرَّاجحة أن يكون مع التيَّار لا عليه، فآمن عمرو رضي الله عنه، وأسلم الناس.

    عمرو بن العاص سفير الإسلام
    وبدأت صفحة جديدة لعمرو رضي الله عنه بعد إسلامه، بعد أن انتهت صفحة قديمة، فأصبح انتماؤه وولاؤه للإسلام والمسلمين، وإيمانه بالإسـلام، وبما جاء به الإسلام في كتاب الله، وسنَّة نبيِّه عليه الصلاة والسلام: لغة وعقيدة وتشريعًا، ومُثُلًا عليا في محاسن الأخلاق.
    وتولَّى عمرو رضي الله عنه بعد إسلامه سفارته الثالثة، وهي سفارته النبويَّة التي كانت سنة ثمان هجرية إلى جَيْفر وعَبْدٍ ابني الجُلُنْدَيِّ في عُمَان، وهما من الأَزْد، والمـَلِك منهما جَيْفَر؛ يدعوهما إلى الإسلام، فأسلم المـَلِك، وأسلم أخوه عَبْد، وأسلم معهما كثيرٌ من العرب أهل عُمان.
    وكان الفرق بين سفارتيه الأوليين وسفارته النبويَّة عظيمًا جدًّا؛ فقد كانت سفارتاه الأوليان إلى أرض الحبشة للسيطرة على المسلمين المهاجرين المستضعفين، الذين كانوا أناسًا بلا غدٍ بالنسبة إلى هجرتهم وغربتهم، وهوانهم على الناس، وكان إقناع النجاشي بما عرضه عليه عمرو رضي الله عنه من تسليم المسلمين المهاجرين لقريش المشركين كفيلاً لترحيلهم عن أرض الحبشة إلى مكَّة، ليُلاقوا من المشركين مصيرًا أسود من تعذيبٍ وتنكيلٍ وإهانةٍ وقتلٍ، وصنوفٍ ممَّا يفعله الخصوم الألدَّاء بخصومهم الضعفاء. أمَّا سفارته النبوية فكانت إلى مملكةٍ ومَلِكٍ ورعيَّة، فأسلموا غير مكترثين بالمنصب الرفيع، والمـُلك الواسع، والرعيَّة المـُطيعة.. فأخفق في سفارتيه الأولى والثانية وكان نجاحه ميسورًا، ونجح في سفارته الثالثة وكان إخفاقه متوقَّعًا؛ لأنَّه كان في سفارتيه الأوليين على باطل، فأخفق الباطل ولم يُخفق عمرو رضي الله عنه، وكان في سفارته النبويَّة على حق، فنجح الحقُّ ونجح بنجاحه عمرو رضي الله عنه أيضًا.
    ودون شَكٍّ فقد كان مخلصًا في انتمائه صادقًا في إيمانه في حالتي إخفاقه ونجاحه حين كان سفيرًا لمشركي قريش، ثم أصبح سفيرًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن مخلصًا صادقًا لَمَا اختارته قريش المشركة لسفارتها قبل إسلامه، ولَمَا اختاره النبي صلى الله عليه وسلم سفيرًا بعد إسلامه؛ فالإسلام يَجُبُّ ما كان قبله كما قال عليه الصلاة والسلام.
    تلك هي المزيَّة الأولى لسفارة عمرو رضي الله عنه: الانتماء والإيمان.
    أما المزيَّة الثانية، فهي: الفصاحة، والعلم، وحسن الخلق.

    فصاحة وأخلاق عمرو بن العاص
    ونكتفي بذكر نماذج تدلُّ على فصاحته، وعلمه، وحسن خلقه. لقد كان عمرو رضي الله عنه عربيًّا -وكان العرب مشهورين بالفصاحة- ومن قريش أفصح العرب، وكان مشهورًا بالفصاحة، كما اشتهر بحِكَمِه البليغة، التي ذكرنا أمثلةً منها عند الحديث عليه: حكيمًا، وكان كاتبًا قارئًا، بليغًا في نثره ونظمه، وقد رُوِيَت له آثارٌ في الشعر والخطب الطوال تسلكه بين الشعراء والخطباء المجيدين.
    وكان عالمـًا من علماء الدين الحنيف، فقيهًا، محدِّثًا، مجتهدًا في الدين، من أصحاب الفُتيا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قضاة المسلمين الأوَّلين.
    أما خُلُقُه الكريم، فقد وصفه رجلٌ فقال: (ما رأيت رجلًا أبين قرآنًا، ولا أكرم خلقًا، ولا أشبه سريرةً بعلانيةٍ منه). وفي حديث إسلام عمرو رضي الله عنه، وصف إسلامه فقال: (... وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأنَّني لم أكن أملأ عينيَّ منه ...). والحياء إذا تيسَّر في إنسانٍ -خاصَّةً في مثل هذه الدرجة، وبمثل هذا الإخلاص- دليلٌ على حسن الخلق.
    لقد كان عمرو رضي الله عنه يُبهر مَن يتَّصل به من الناس بفصاحته، ويُدهشهم بعلمه، ويأخذهم بحسن أخلاقه، ويأسرهم بمزاياه الكثيرة، في السِّلم والحرب، وفي السَّرَّاء والضرَّاء، فكان زينة المجالس إذا جلس، والظَّاهر بين الناس إذا قام.

    أمَّا المزيَّة الثالثة لسفارة عمرو، فهي الصبر والحكمة.
    وقد أبدى عمرو رضي الله عنه في سفارتيه الأوليين لمشركي قريش إلى النجاشي ملك الحبشة صبرًا عجيبًا في الإعداد للرحلة من مكة إلى الحبشة، وإعداد الهدايا التي يحبُّها النجاشي وخاصَّته، واستقطاب حاشية النجاشي بالهدايا الثمينة؛ لضمان ولائهم له، ومعاونته عند النجاشي على المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة.
    كما صبر صبرًا جميلًا على دراسة وتفهُّم ما جاء به الإسلام من التعاليم الخاصَّة بالمسيح عليه السلام، وما جاء في تعاليم المسيحيَّة، وإبراز التناقض للنجاشي من أجل استثارته للتنكيل بالمسلمين المهاجرين.
    كما صبر صَبْرًا جميلًا على اتِّصالاته المستمرَّة الطويلة بحاشية النجاشي والنجاشي، وعلى مفاوضتهم بغياب المسلمين المهاجرين وبحضورهم.
    وكانت تصرفات عمرو رضي الله عنه في سفارتيه هاتين تتسم بالحكمة والاتزان، فبذل قُصارى جهده لتحقيق هدفه، ولكنَّه رضي بالسلامة والخيبة على الرغم ممَّا بذله من عناء.
    أمَّا في سفارته الثالثة؛ وهي سفارته النبوية إلى عُمان، فقد اتَّسم بالصبر والحكمة أيضًا، فعرف مزايا الملك، ومزايا أخيه، ففاتح الملك بعد أن ضمن أخاه الذي فاتحه قبل الملك، فكان أخو الملك عند حسن ظنِّ عمرو رضي الله عنه، وعاونه في مهمَّته معاونةً صادقة، لقد كان عمرو رضي الله عنه حكيمًا في أقواله وتصرُّفاته.

    أمَّا المزيَّة الرَّابعة لسفارة عمرو رضي الله عنه، فهي سعة الحيلة.
    وقد تحدَّثنا عن دهائه طويلًا؛ إذ كان من دُهاة العرب الأربعة المشهورين، حاضر البديهة، عظيم الذكاء، طويل التجربة، ويكفي أن نتذكَّر قوله: (ما دخلتُ في شيءٍ قط إلا خرجت منه)، وقوله: (لم أدخل في أمرٍ قط فكرهته إلا خرجت منه)، وقوله: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنَّه الذي يعرف خير الشرَّين).
    لقد كان أحد الدُّهاة المقدَّمين في المكر والرأي، وكان معدودًا من دُهاة العرب ومن أبطالهم وكان ذا رأيٍ سديد.
    ولعلَّ دخوله على قادة أعدائه -في فتح مصر- الذين يُحاربهم في الميدان في مقرَّاتهم، وتخلُّصه منهم بعد انكشاف أمره لهم ومعرفتهم بأنَّه القائد وليس رسوله، أدلَّةٌ قاطعةٌ على سعة حيلة عمرو رضي الله عنه. وتملُّصه من النجاشي في سفارتيه الأوليين بعد غضب النجاشي عليه دليلٌ على سعة حيل عمرو. وتفوٌّقه في النجاح لا نجاحه حسب في سفارته النبوية إلى عُمان دليلٌ على سعة حيلة عمرو رضي الله عنه.
    واجتيازه الفيافي والقفار في طريق عودته من عُمان إلى المدينة، مجتازًا المناطق الملغومة بالمرتدِّين، منهم قُرَّة بن هُبيرة ومسيلمة الكذاب، بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتخلُّصه من الأعداء والمرتدِّين، ونجاته بنفسه منهم وهم أحرص ما يكونون على إبادة مَن هم أقلُّ منه شأنًا من المسلمين، دليلٌ على سعة حيلة عمرو رضي الله عنه، وذكائه الخارق، وحسن تصرُّفه، وبُعد نظره، ودهائه العظيم. إنَّ كلَّ أعمال عمرو رضي الله عنه السلميَّة والحربيَّة أدلَّةٌ قاطعةٌ ملموسةٌ على سعة حيلته؛ بل تُميِّزه في هذا المجال.

    أمَّا المزيَّة الخامسة لسفارة عمرو، فهي رواء مظهره.
    فقد كان أدعج أبلج، يخضب شعره بالسواد، يهتمُّ بملبسه، وبذلك يكون مظهره مقبولًا، إن لم يكن حَسَنًا، وقد كان سفيرًا لمشركي قريش إلى الحبشة. وعمرو رضي الله عنه بهذا الوصف يبدو حسن المظهر بالنسبة إلى الحبشة، ثم كان سفيرًا نبويًّا إلى عُمان، وهم من العرب الأزد، وعمرو رضي الله عنه بهذا الوصف يبدو مقبول المظهر بالنسبة إلى العرب قومه، فهو منهم وهم منه، والعرب متقاربون في الغالب مظهرًا.
    ولكنًّ المـَخْبر أهمُّ بكثيرٍ من المظهر، وقد كانت طاقات عمرو في مَخْبره متميِّزة، ونادرة، ولا تتكرَّر إلَّا قليلًا جدًّا، ولكنَّ المظهر -أيضًا- مزيَّة من مزايا السفير، فكان لابُدَّ من ذكرها وعدم إغفالها.
    ولم تكن هذه المزايا الخمس التي كانت متيسرة لعمرو سفيرًا مقتصرة عليه وحده دون سفراء النبي صلى الله عليه وسلم الآخرين؛ بل كانت متيسرة فيهم جميعًا دون استثناء، ولكن كلُّ مزيَّةٍ على انفراد لم تكن متساوية كمِّيَّة ونوعيَّة في كلِّ سفير؛ بل كانت على درجاتٍ متفاوتةٍ فيما بينهم، ولكنَّها كانت درجات عالية لا يهبط مستواها أبدًا، بل يرتفع هذا المستوى، والتفاوت هو في درجة الارتفاع وحده.
    وكانت مزيَّة: رواء المظهر مرتفعةٌ الدرجة في سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين أوفدهم إلى كسرى الفُرس، وقيصر الروم، ومقوقس مصر؛ لأنَّ هؤلاء الملوك كانوا يهتمُّون بالمظهر كثيرًا، ويُؤثِّر فيهم المظهر قبل أن يتأثَّروا بالمـَخْبَر، ويكون صاحب المظهر الحسن أقرب إلى نفوسهم، وأقدر على التأثير فيها، وأحرى أن يُسْتَقبَل بالقبول والحفاوة.
    وما تذكرت المزايا الخمس الرئيسة التي كانت في سفراء النبي صلى الله عليه وسلم قبل خمسة عشر قرنًا خلت، وهناك مزايا فرعيَّة أخرى متيسرة فيهم -أيضًا- بشكلٍ أو بآخر لم نتطرَّق إليها خوفًا من الإطناب، واكتفاءً بالمزايا الرئيسة حسب ما تذكَّرت تلك المزايا التي سنَّها عليه الصلاة والسلام في اختيار السفراء، وطبَّقها في اختيار سفرائه، وطبَّقها الخلفاء الراشدون من بعده، وخلفاء بني أمية، وبني العباس في أكثر سفرائهم، إلَّا وتمنَّيت أن يُطبِّقها المسلمون في هذا القرن لاختيار سفرائهم؛ إذ يبدو أنَّهم يعمدون إلى مخالفة توفُّر هذه المزايا في السَّفير، أو يتعمَّدون مخالفتها، والنتيجة أنَّ أكثر سفراء الدول الإسلاميَّة -إلَّا النادر منهم- وجودهم من مصلحة أعداء دولهم لا من مصلحة دولهم، ما في ذلك شكٌّ، ولعلَّ أولئك السفراء قبل غيرهم يعرفون هذه الحقيقة؛ فلا انتماء، ولا إيمان، ولا فصاحة، ولا علــم، ولا عمل، ولا حسن خلق، في أيِّ شكلٍ من أشكاله، ولا صبر على حلِّ المشاكل والمعضلات، ولا حكمة، ولا سعة حيلة، ولا رواء مظهر، فهو ضريبةٌ على دولته وكفى.

    ليت لنا سفراء من أمثال عمرو رضي الله عنه، فما أحوجنا إلى أمثاله هذه الأيَّام!
 

walaa yo

كبار الشخصيات
طاقم الإدارة
كل ماتقدميه رائع بانتظار كل جديد
 

مواضيع مماثلة

أعلى