حياة معلقة بركام قصة قصيرة

قيثارة

كاتب جيد جدا
حياة معلقة بركام! (قصة قصيرة)

- "شوي شوي يا بنات"
أتى صوت الأم منبهًا رهام وروان اللتان تركضان خلف بعضهما فيما ضحكاتهما تسبقهما.
- "ما بثير.. ما بثير انتي ثريعة"
قالتها روان محتجة على سير اللعبة، فسنواتها الثلاث لا تكفي لتلحق برهام التي سبقتها بعامين. توقفت روان جانبًا غاضبة، كمن يريد إنهاء اللعب.
اقتربت رهام منها محاولة إيجاد حل سريع يضمن إعادة المرح من جديد، ويبقى الجو هادئًا، فلا زال اليوم بأوله، وسيكون هناك متسع للنزاع والشجار.
ابتسمت رهام وهي تمسح على كتف أختها: "أنت اركضي وأنا أحاول الإمساك بكِ".
ضحكت ملامح روان وهي تجري لتبدأ اللعبة من جديد، لكن لم يتطلب الأمر إلا ثوانٍ معدودة قبل أن تصرخ رهام منتصرة:
- "مسكتك.. مسكتك"
حاولت روان الإفلات فشدتها رهام من ملابسها بشكل أكبر كمن يتمسك بشيء وارتفعت ضحكاتهما.
في تلك اللحظة ضرب صاروخ مجنون العمارة التي تقطن فيها العائلة، كزلزال سريع ب 10 درجات اقتلع الحياة من المكان..

...........

لم أكن أدري حقيقة ما يجري؛ سمعت صوت انفجار ضخم ولم أعد أرى شيئًا، الكثير من الدّخان يحيط بي، وأسمع أصوات تحطيم وتساقط للحجارة والجدران، شيء كبير ارتطم برأسي فأسقطني أرضًا وبقيت ممسكة بروان رعبًا وخوفًا..
استمرّ صوت التّكسير والدّخان يحيط بنا.. كنت أعلم أن روان قريبة مني إذ لا زلت أشعر بملابسها التي أمسكها بيدي، وأسمع صوت صراخها الذي اختلط بصراخي وكان الأقرب لي من صوت التكسير والانفجار والصراخ.
دقائق مرت أم ساعات.. لا أعرف..
حين استطعت الرؤية بعد أن تلقيت الكثير من الضربات وسقط على رأسي عدة حجارة، كنت عالقة؛ رأسي معلق في الهواء ويدي اليسرى أيضًا.. حاولت سحب جسمي لكن الألم ازداد فازداد صراخي.. كان الركام يثبت جسدي بقوة فيما بقي رأسي ويدي في الهواء..

............

كنت في الغرفة أقف أستعد للخروج، موعد سريع مع صديقي قبل أن أعود للغداء، كان النهار قد انتصف، والغارات لم تكن تتوقف، في لحظة كان الانفجار قريبًا جدًا، هزة أرضية قوية ضربت المبنى، سقطت أرضًا وسقط كل ما كان واقفًا في الغرفة، صوت تحطيم وتكسير وأحجار متناثرة، وأشياء تتساقط، دخان كثيف غطى المشهد، صرخت: "يالله.. يالله"
حين استطعت الرؤية من بين الدّخان، كانت الأرض تحت قدمي لا تزال ثابتة، نفضت الأشياء العالقة على يدي وخرجت باتجاه الدّخان الكثيف أبحث عن بناتي، صرخت برعب وذعر: "أمينة.. داليا.. ريماس.. رهام.. روان.. تقى.. لك اسمااا وينكم.."
صوت البكاء والصراخ كان منبعثًا من كل مكان، قلت محاولًا استجماع أصواتهم: "لا تخافوا أنا جاية.. هلأ بنطالعكم.. "
أصابني الرعب، أضعت الاتجاهات، عائلتي، بناتي، زوجتي، لا أرى منهم أحدًا!
أنقاض في كل مكان، ذعر وصراخ وعويل..
اتجهت للطرف المدمر كليًا من المبنى.. هناك رأيت صغيرتي؛ رهام، وروان.
روان خارج الأنقاض معلقة في الهواء على كومة الحجارة التي تتساقط بين الحين والآخر، أما رهام فكانت عالقة تحت الركام، يدها اليسرى ورأسها محررين فقط، نظرت بفزع: "رهام روان .. أنا هون لا تخافوا بابا .. جاية طالعكون .. يا ربي دخيلك .. يالله يالله "

.......................

كان صوت روان لا ينقطع عويل وبكاء، التفت للجهة اليمنى كانت بجانبي، وجهها مرعب كمن خرج من القبر، تشبه الصور التي كنت أرى أبي يشاهدها وهو يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله" كنت أسأله: "ماذا حدث؟" فيجيب: "الكلاب عم يقصفوا الأطفال، شوفي كيف عم يطالعوهم من تحت الأنقاض".
لم أكن أفهم كيف يتم دهن الوجه بالتراب والسواد والرعب والدماء والبكاء دفعة واحدة.. لكنني حين رأيت وجه روان فهمت.. صرخت.. بكيت لا أعرف ما فعلته..
نظرت للأسفل كان المكان مرتفعًا.. وكنت أخاف الارتفاعات.
يصلني صوت أبي وهو يناديني، أحاول سحب جسمي فأشعر بألم كبير فأزداد بكاءً.
حولي أصوات تكسير وحفر وصراخ وبكاء وإسعاف وتكبيرات وأشياء لا تنقطع، نظرت للأسفل فارتجفت خوفًا.. أتذكر حين وقفت مرة على نافذة منزلنا، وكدت أن أسقط كنت أشعر ببرودة غريبة تمر من أقدامي وأنا أتأرجح في الهواء، في لحظة وجدتي في حضن أمي عانقتني وهمست: "لا تقتربي من النافذة مرة أخرى"..
أغمضت عيني لينتهي هذا الخوف.. فتحتهما.. لم يتغير شيء.. رأيت أمي من بعيد..
- "صرخت ماما.. والله ما قربت على الشباك.. ليش راح أوقع"
صوت أبي يأتيني أيضًا: "لا تخافوا جاييكم أنا".
يقف أبي على جهة المبنى الذي انهارت بعض أجزائه.. وأنا وروان معلقتان في الجزء المدمر تماماً..
نظرت نظرة أخرى للأسفل، رجال كثيرون متجمعون يلوّحون يصرخون، لا أدري لم شعرت حينها أنه حلم مزعج..
كنت كلما رأيت حلمًا مزعجًا أغمضت عيني وهمست باسم أمي ثلاث مرات فينتهي الكابوس
حاولت.. أغمضت عيني.. همست باسم أمي ثلاثًا.. فتحت لا زال كل شيء كما هو..
أعدتها مرة أخرى.. لم يتغير شيء
كررتها ثالثة.. صرخت باسم أمي
فتحت عيني لمحت طيفها في السماء، صرخت بصوت أعلى: " ماما استني أنا جاية"
وَقَفَت..

.......

نظرت للأسفل كان المشهد مرعبًا، شقتي التي في الطابق الثالث معلقة في الهواء على شكل ركام يتساقط بين الحين والآخر، صغيرتاي معلقتان مع الحجارة، تحتهما هاوية تنتظرهما، وأنا أقف أحاول إنقاذهما.
حاولت الاقتراب منهما فتدحرجت الحجارة ككرات مجنونة نحوهما تمامًا، خفت.. تراجعت.. صرخت بصوت أعلى بالرجال الواقفين في الأسفل: "ساعدونا .. يالله ساعدنا"
مددت يدي لروان: "بابا روان تعي"
مددت جسمي محاولًا الوصول إليها:
- "بابا روان .. تعي تعي أنا هون لا تخافي تعي لعندي"
روان لا ينقطع بكاؤها وصرخاتها، أشير لها وأنا أمدّ جسمي أكثر:
- " بابا روان .. ليكيني تعي لا تخافي"

..............

روان بشكلها المفزع وبكائها الذي لا يتوقف بجانبي.. لم تكن عالقة مثلي نظرت إليها
- "روان بابا هنيك.. بتقدري تزحفي لعندو؟"
بقيت تبكي.. أكملت:
- "روان روحي لعند بابا.."
تحركت روان.. خطوة واحدة.. خانها الرّكام وانزلق.. فانزلقت معه..
وبدون تفكير كانت ذراعي الوحيدة الخارجة من تحت الركام تمتدّ وتمسك بروان..
غابت كل الأصوات عني وبقي صوت أبي الذي يصرخ بجنون: يالله ساعدوهم.. يالله يالله .. لا توقعوا يا بنات.. أنا جاية

...........

بدأت روان تستجيب لي، وتتحرك باتجاهي، الرعب سيد الموقف وأنا أنظر للهاوية التي ستزحف عليها ابنتي، ليتني كنت مكانكما!
- "يلا بابا .. يلا تعي"
خطوة واحدة زحفتها روان، لينهار الركام الذي تزحف عليه وتهوي، صرخت صرخة شقت السماء:
- "لاااااا بنتييييي"
أغمضت عيني من هول المشهد، وفتحتها بسرعة، لأجد روان معلقة بيد رهام، صغيرتي رهام تحمي أختها، تمدّ يدها الوحيدة المحررة وتمسك أختها كحزام أمان يمنع السّقوط، صرخت: "يالله .. ساعدونا يا شباب.. البنات معلقين بالهوا.. ساعدونا.."
نظرت للبنتين كان البكاء لا يتوقف منهما: "بابا لا تخافوا لا توقعوا.. أنا جاية .."
صارت صرخاتي كمجنون فقد عقله، كنت أحاول فقط الوصول، العجز يقطّعني، كلما حاولت الارتكاز على حجر تدحرج وانزلق وعدت مرة أخرى، ينتابني الخوف من حركة الحجارة فتنهار كومة الحجارة التي تسند رهام وروان وتسقطا..
جنون الفكرة جعلني أحاول وأعود وأحاول وأصرخ وأجن ..
- "رهااااام .. روااااان .. يالله ياللله .. ساعدنااا ساعدهم يالله .."

............

كان صوت أبي يهدئ خوفي رغم صراخه، يعطيني الأمان رغم القصف.. كان أبي الأمان الحقيقي لكل أصوات القصف التي لا تهدأ حولنا.. كلما سمعنا صوتًا نقفز لحضنه أنا وروان ونختبئ في صدره.. أسمعه يسمّي بالرّحمن ويتلو علينا آيات القرآن.. كنت أعلم أن من يمسك بحضن أبيه لا يخاف.. أردت أبي تلك اللّحظة
صرخت: "بابا.."
كان أبي يبكي ويصرخ، لم أره هكذا من قبل.. يقفز يحاول يمدّ يده.. يتسلق الركام فتهوي أجزاء فيعود..
بدأت أفقد الشعور بجسمي المثبّت تحت الرّكام.. ويدي الممتدة الممسكة بروان تتصلّب..
ثقيلة أنت يا روان.. أخاف أن أفلت.. أصابعي ضعيفة
روان لم تعد تبكي.. صمتت.. بقي بكائي بسبب الألم ..
من بين الصرخات قلت: "لا تخافي بابا جاية .. هنيك " أشير بعيني.. يدي الثانية عالقة أريدها أن تراه!
بدأت أصابعي بالارتخاء تذكرت أمي وهي تقول: "كل وحدة فيكم تنتبه على الأصغر منها"
وكلما رأتني ألعب مع روان تقول مفاخرة أمام أخواتي: "برافو رهام.. أكتر حدا بينتبه على روان
فأستمر بفعلي بفرح ونشوة"
تلك اللحظة رأيت أمي تبتسم.. تشدّ على يدي فتزداد يدي تمسكًا بروان
لم أكن أشعر بشيء.. فقط أريد من ينهي المشهد، أريد أن يتوقف الألم، أن يمسكوا بروان، أن أرتاح قليلًا..
ولم تطل أمنيتي.. سمعها الركام فانهار في لحظة ووجدتني وروان في الهواء نهوي..
صرخة روان المرتعبة شقت السماء، صرخت أنا أيضًا: "غمضي عيونك!"
كنت أخاف الاصطدام كثيرًا.. المشهد كان مرعبًا.. أنا أسقط من الأعلى.. ومعي روان
نهوي وتحتنا الحجارة.. نهوي على أكوام من أسياخ وحجر مدمر..
..........
لا أدري كم مرّ من الوقت لكن العجز كان يقطعني، أحاول أصرخ.. أولول.. أمد يدي .. أمسك رأسي.. أصرخ: "لك ساعدونااا"
أمسك رأسي بيدي كمجنون أفلت منه شيء، ماذا لو أفلتت رهام روان؟
يصيبني الاحتمال بمس كهربائي فأنتفض وأعود أحاول...
مددت يدي المرة الأخيرة، اقتربت.. لم تنهار الحجارة.. سأنجح.. بدأت بالاقتراب أكثر
وفي لحظة تسارع المشهد بحركة مفاجئة وتواطئ الركام.. فانهار الجزء الذي يحمل رهام وروان وسقطتا من الطابق الثالث لتستقبلهما كتلة حجارة وأسياخ حديد من ركام متجمع في الأرض ..
لم أغمض عيني، ذهول مرعب أصابني.. خرجت مني صرخت شقت السماء! وركضت للأسفل إليها!
........

كان الأمر يسيرًا جدًا، لم أشعر بشيء فتحت عيني كانت أمي هناك تمدّ يدها لي..
اختفت الأصوات وبقي صوت أمي فقط.. عادت السماء للونها.. غاب الدخان.. اختفت الحجارة.. تلون المكان!!
ابتسمت بفرح:
- جيب روان معي؟
- لا عطيها لبابا
عانق الأب روان جاريًا بها إلى لسيارة الإسعاف.. وحلقت رهام في السماء.. طيرًا حرًا..

*مهداة إلى روح الطفلة رهام ذات الخمس سنوات.. وأمها التي استشهدت بتاريخ ( 24من تموز 2019) في أريحا بريف إدلب بمشهد جنوني وهي تحاول إنقاذ أختها روان ذات الثلاث سنوات بعد أن ضربت طائرة حربية تابعة لنظام الأسد العمارة الذي تسكن فيه العائلة والمكونة من عدة طوابق فوق رؤوس قاطينها.
م: استشهدت روان بعد يومين من الحادثة..


لبابة الهواري



67286533_397579564219696_5095533381609848832_n.jpg

 
أعلى