صفحةٌ انسانيةٌ خالدة من التغريبةِ الفلسطينية "اسماعيل حسين العداربه"

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحةٌ انسانيةٌ خالدة
من التغريبةِ الفلسطينية
اسماعيل حسين العداربه
"أبا عمر"
GawMW-fSOFyulLqqZILAzxDj9N2VzqH3G9CxZluK870Z41ugUkgjyycnKTiQVpkaTYjc8tTyWXr0LkHOdy15WHVx4efTZOyAhfPOEVPYRU4qx4qcepO3ZY1dlANLWzLRBDR-XSw

من متابعات صفحات تاريخ الهجرة الفلسطينية , وتغريبتهم عن وطنهم القهري ؛ وبقوة السلاح , ومن الصّفحات المثيرة والصاخبة ؛ في الإصّْرارِ على الحياة ؛ والمقاومة المسلحة منها والممانعة العصرية المدنية ؛ واهميتها في استمرارية القضية وعناصر تاريخها المتواصل , تلك التي لم تحظى بالوفير من الصحافة والإعلام ؛ والمؤرخين والفنانين وصنّاع السينما والأفلام , صفحات عَزَفتْ ألْحَانها بعيدا عن الاعلام وأضوائه الصاخبة والحالمة أحيانا , لتصوغ مشاعرنا العاطفية ؛ انشودةً لفلسطين وتاريخها الأصيل , وخصوصا قصصا ؛ وحكايات البسطاء من براعم المـُهاجرين ؛ الذين اعْتَلوا صهوة الفرسان ؛ في بواكير نباتهم اليافع , وخَطّْتْ في تاريخ القضية الفلسطينية ؛ صفحةً جهاديةً في ربوعِ الأرض ؛ تقاوم الموت والتلاشي والاندثار , وترسم في تاريخ المحتل "الخطأ الأيديولوجي" ؛ لإنتاج قضية الهنود الحمر ؛ في شرقنا الإسلامي العظيم ؛ بانتصاره على الإحتلال مهما عَظُم شأنه , ويزول عاجلا أم آجلا , ولم يبقى منه إلا سطورا باهة , في بطون كتب التاريخ , عظةً لمن تُسَوْل له نفس , بمداعبة أحلام الشياطين في كسر شوكة الإسلام والمسلمين , كلما رأواْ استراحةً زمنيةً لقومنا من عناءِ المسيرِ الطويلْ لهذه الأمة الخيريِّة للعالمين , مما يؤكد نهاية وزوال الإحتلال الصهيوني قريبا بإذن الله .
نعم نطالع اليوم صفحة مكررة من عشرات الحالات المشابهة لشعبنا العظيم ؛ على الحدود التاريخية لفلسطين ؛ من أردنِّ النشامى والأبطال , بل وتَعدّتْ خلفَ البحارِ ؛ وأعالي القارات من "كندا" و "أوروبا" و"الأمريكيتين" جنوبا وشملا , لتَكْتب تاريخ فلسطين وأهله الصابرين ؛ بحروف المعاناة والصمود الأسطوري ؛ أمام غطرسة الاحتلال ؛ والتي ارادت أكثر من اغتصاب الأرض والتضاريس ؛ محواً لفلسطينَ تاريخا وشعبا بشتاتٍ فوضوي ظالم ؛ لتصبح فلسطين وجبة احتلالية يَسْهُل هَضْمُها , "وأنى لهم ذلك" , أمامَ شعبٍ حملَ قضيةَ فلسطينَ إلى صروحِ المحافلِ الدوليةِ الإعلاميةِ ؛ منها السياسيةِ والإنسانيةِ والأكاديميةِ والعسكرية والمدنية , ناقلا عنفوان القضية للأجيال القادمة , مُصرّا على المقاومة المسلحة ؛ والممانعة بكل أشكالها الحياتية ؛ وقد سطرَ البُسطاء من قومنا ؛ قضية فلسطين ومقاومتها بأشكالها المتعددة الخُرافية ؛ في كل مناحي الحياة ؛ ومن على خشبة مسرحها الجغرافي الكبير , سواء مهاجرين ؛ أو صامدين في أرضهم ؛ والكاظمينَ الغيظِ على الجراح , كما في "غزة العزة" اليوم ؛ حيث ُتَفرضْ على المحتلِ معادلات صعبة ؛ تتحدى وجوده واستمرارية احتلاله ؛ الزائل والمنتهي عن الوجود قريبا بإذن الله .
وتبدأ رحلة المعاناة والتهجير من ليلة 28-10-1948 م من القرن الماضي , ومن بين أكوام جثث الشهداء لقرية الدوايمة والتي تزيد عن "570" فردا من الشهداء بإذن الله , حسب الإخصائيات البريطانية لمذبحة القرية , يقف الشيخ الـمُسنْ "حسين محمد العداربه " وعائلته الناجين من الموت ؛ من على حدودِ القريةِ ليلةَ سقوطِها , يرقب الأيام الخوالي من حياةٍ قرويةٍ زراعيةٍ مثيرةٍ مرّتْ من هنا , ويَحُولُ بيْنَه وبيْنَها ؛ احتلالٌ عسكريٌ غاشم , لا يعرف معنى لكرامةِ الانسان , أو عهودٍ دينيةٍ أو مدنيةٍ ؛ ولا مواثيقٍ دولية تحفظ للمدنيين إنسانيتهم وحقهمْ في الحياة , لتصنع هذه الظروف ؛ من شعب فلسطين وقضيتهِ ؛ شعبا متخصصا في صناعة الحياة ؛ تعجر الأقلام والأفلام على وصفه أو تصويره .
" الشيخ " "أبا شحدة" , "حسين محمد حسين العداربه" الـمُهجّر عن أرضه وبلدته" , حاول الحياة هناك على مدار سنوات , متسللا إلى "دير خروف", و "شِعب العداربه" و "خرْبة الرُز" من أطراف الدوايمة , من مسكنه في كهفٍ من قريةِ "دورة الخليل" المجاورة , ولكن رصاص الاحتلال ؛ وجنده ومجنديه وعصاباته ؛ والمدججين بالسلاح ؛ والتي نشرت الموت والخراب في كل القرية وأطرافها ؛ وكذلك "ألّْغَامِهِ" ومفخخاتِ الموت التي نشرها في ربوعِ القريةِ حينها ؛ انفجرت في بعض مواشه وأبقاره ؛ وأهلكت جزءا منها , وقتلت العديد من أهالي القرية الذين حاولوا العودة إلى الحياة في قريتهم الجريحة , مما دفع الاحتلال تدمير المنازل منهجيا بالكامل من سنة 1952م مُعلِناً الموت لمن يقترب من هناك , هذه الأحوال والاهوال وغيرها ؛ حالت دون معاودة الحياة على تلك الأراضي الواسعة لقريةٍ تزيدُ عن 60 ألف دنماً من المساحات , فوقف الشيخ "حسين محمد العداربه , أبا شحدة " , وقوف المتألم المتأمل في جغرافيةٍ أخرى , للبحث عن حياةٍ كريمةٍ مصونة , تحفظ له وأسرتَهُ حياةً متوازنة ؛ "وخصوصا أنه يعاني ضعفا شديدا في البصر" , بالإضافة إلى عائلته التي عجزت عن الحياة في ظل هذا الصعوبات المتزايدة يوماً بعدَ يوم , فأضافتْ هجرةً جديدةً إلى هجرتهِ الأولى ؛ هجرةٌ أممَ وجههُ نحوها ؛ من شرقِ نهرِ الأردن , نحو اردنَّ النشامى والشهامة والكرم ؛ بأهله وحكومته المتوازنة ؛ في سياستها التي تَعِيْ معنى المرحلة التي تمر بها الأمة , واستقر به الترحال والتّهجير في سهول "امْلِيح" من ضواحي مدينة "مأدبا" التاريخية ؛ من ضفة النهر الشرقية ؛ من جنوب العاصمة عمان.
التحق الابن الأصغر للعائلة ؛ "اسماعيل حسين العداربه , أبا عمر " مدرسة القرية المتواضعة في الصف الثالث الابتدائي , يتابع الدروس والتعليم في مدارسها المتواضعة حينها , وأمّا أخيهِ الأكبر , ووالِدِهِ باشروا العمل في الزراعةِ ورعايةِ الأبقار ؛ ومتابعة مهنتهم التي فيها بَرعوا , وقبل انتهاء الموسم الزراعي , خرج أخيه الوحيد ويكبره سنا "شحدة "أبا حسين"" من خيمتهم الزراعية المنتصبة بصمودٍ قَهْريّ ؛ في واحدٍ من سهول مرتفعات "وادي الواله" من نواحي "امْليح" للعلاج في مدينة مأدبا ؛ من عدةِ أمراضٍ الـمّتْ بهِ , اقعدتهُ مشفى مدينة "السلط" التاريخيةِ لعدةِ اسابيعٍ هناك ؛ دون أن يَعْلَموا مكانه ,جعلت الطالب "اسماعيل حسين , أبا عمر" التلميذ المدرسي النجيب ؛ والبارع الذكي في دراسته ومتابعة دروسه "حسب شَهادةَ مُدَرِّسيهِ" تركْ مُتابعةَ تعليمهِ كأقرانهِ النجباء , لإنقاذ مزرعتهم المتواضعة ؛ وبعض المواشي التي شارفت على الهلاك بعدما تَغَيَّب من يصونها ويرعاها .
نعم تغيب الاخ الوحيد الأكبر الذي كان يُشرف على "العائلة المهاجرة" بجهده واجتهاده الكبير , فَسَهِرَ الأبوين ؛ وابنتهم الوحيدة الحنون ؛ الليالي المؤلمة بانتظار مُعِيلُها الغائب أمام الخيمة بالصلاة والدعاء لله "سبحانه" ؛ وأن يُعيدَهُ دون أن يصيبهُ مكروه , وَيَتِمَّ انتظارهُ طوالَ النهارِ على التلةِ المطلةِ على الطريق القادم من المدينة ؛ لعل قادما يروي لهم قصةً مُطَمْئنةً عن ابنهم الغائب المريض منذ أسابيع , نعم عاد من "مشفاه" بمرض عضال صاحبه طوال حياته , اضاف إلى أخيه "اسماعيل حسين , أبا عمر" همّا جديدا ؛ ومتابعة أخيه لعقود متتالية ؛ حتى أودعه الثرى من شتاء سنة 2006م , عليه رحمة الله .
هكذا قَدَرُ الكِبار الكِبار ؛ في فصول التغريبة الفلسطينية الخالدة , كما وصفها الشاعر الهندي الكبير " محمد اقبال"
لربما سرنا فوق الجبال جبلا :: و فوق موج البحار بحار
نعم هكذا تُكتب الصفحاتُ المثيرة ؛ من التّاريخ الفلسطيني خاصة ؛ والتاريخ الإنساني العالمي عامة , وخصوصا عندما يُصبحُ الصغارَ كبارا ؛ بين ليلةٍ وضحاها , ليتسلم اليافع ابن الــ "12" ربيعا ؛ همومَ عائلةٍ مهاجرة ؛ في براري المزارع , وعلى تلال الهضاب والمنحدرات ؛ من روابي منخفض حفرة الانهدام ؛ من الغور الأردني الشرقي ؛ من أردن الرجال الكرام , وقد صاحب الرجال الأطهار من أهل مهنته ؛ المتابعون لموسم رعاية الأبقار , متنقلا بمواسمِ الرعيِّ العديدة , والتي تجمعُ موسمَ الاغوارِ المنخفضةِ في الشتاء , والدافئ نسبيا مقارنةً للمرتفعاتِ الجبليةِ الباردة , ويتبعها موسمُ الربيعَ متوجهين نحو المرتفعات والهضاب الشرقية لحفرة الانهدام , وهذه المواسمُ الرعويةُ معروفةً لأهلِ المنطقةِ المستضيفةِ لهجرتهم ؛ من أردننا الشرقيَّ بأخلاقهِ وكرمهِ , ليفرض على المعيل اليافع الجديد "اسماعيل حسين العداربه"؛ تركَ الخيمةَ وأهلَ أسرتهِ لعدةَ شهورٍ متتالية , متجولا بين الهضابِ والمراعي وينابيعَ الماءِ في المنحدراتِ الجبلية , منحدرا من مدينةِ مأدبا نحو البحرَ الميتِ " في أدنى الأرض , متابعا طول الاغوار حولَ نهرَ الأردنِّ الشامخَ بتاريخهِ وموقعهِ المقدس , متوجها شمالا حتى يصل منابع نهر اليرموك , بتاريخه المتصل مع سيف الله المسلول خالد بن الوليد , من معركة اليرموك التاريخية في الفتوحات الإسلامية الاولى ؛ من الدعوةِ إلى الله , والقريبةُ من هضبة الجولان السُوريّ ؛ والمطلةُ على "بحيرة طبريا" وسهول مرج بن عامر من فلسطين المحتلة , والعائدين إليها ؛ بإذن الله .
رَعَىْ اليافعَ "اسماعيل حسين العداربه " أبقارهُ مع ثُلةٍ من الرجالِ الأوفياءِ بحكمةٍ واقتدار ؛ وكأنما نتابع فيلما سينمائي من الغرب الأمريكي , من ولاية تكساس الشهيرة لِرُعَاةِ الأبقار , وليزيد من ثقافتهِ من المسرحِ التاريخي البالغ الثراء ؛ هنا في الغور الشرقي من أردنَّ الرجال الشرفاء , وفي هذه التضاريس ؛ والتي في كلِ شبرٍ من حقولها الواسعة , حكاية تاريخية ؛ وخصوصا قصص الصحابة الكرام "رضي الله عن الصحابة أجمعين" وممن صَحِبوا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وقد دُفن هنا في الأغوارِ ؛ أكثرَ من 36 ألف صحابي عليهم رحمة الله , وقد تَشَرّبَ التاريخ الذي مر من هنا , وعلى مسرح الغور الشرقي والغربي من كلا ضفتي النهر , والذي شهدَ معاركاً تاريخيةً مفصليةً من التاريخَ القديم والحديث ؛ وشرح الأستاذ والمعلم "الأقطش" لتلميذه "اسماعيل العداربه" قصة "طالوت "عليه السلام" , الواردة في سورة البقرة من القرآن الكريم , حيث قدم طالوت من جبال البلقاء , المطلة من أحضان التاريخ ؛ بأشجارها وبساتينها وحدائقها الغناء , مارا بنهرها عذب المياه الصافي , ذو الابتلاء الشهير للمؤمنين من جيش "طالوت" حينها , بِعَدْمِ الشربِ منَ النهرِ ؛ إلا من اغترف غُرْفةً بيده , بأمرٍ من الله سبحانه , وليميّز الصادق من جند الحق الصابرين , والذين هزموا العمالقة المحتلين من جند "جالوت" الظالمين , بمساعدة الفتى نبي الله داوود "عليه السلام" .
وكان الأستاذُ "الأقطش" يبدد الملل من الليالي الساهرة الطويلة من شتاء الاغوار الدافئة , بمذاكرة تلميذه الواعي , حول التاريخ الإسلاميِّ القديم والحديث ؛ من " معركة حطين" ؛ بقيادة الشهير صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله , و معركة عين جالوت ؛ بقيادة قطز ومُسانِدِهِ الظاهر بيبرس رحمهما الله تعالى , وفيما بعد تابع "أبا عمر" بوجدان مضطرب , وإحساسٍ مرهف , أحداث معركة الكرامة 1968م من القرن الماضي بقيادة الشريف الهاشمي ملك الأردن حينها "الحسين بن طلال" رحمة الله , حيث أضاف تاريخا شريفا خالدْ ؛ ومشرّفا للرجال الأوفياء من بعده , في هذه الحقبة التاريخية المفصلية من تاريخ الأمة , تاريخا يؤكدهُ القرآنَ الكريمِ ؛ بالنصر والعودة والتحرير لفلسطين والقدس والأقصى ؛ بإذن الله .
استلهم " راعي الأبقار اليافع ؛ "ابا عمر" تاريخ أمته العتيدة والقديمة , بِرَحِيلِهِ وترْحَالهِ المتواصل , وسَهَرَهِ المتيقظ لمتابعة أحوال أبقارهِ ؛ ونومهِ الحالم مع الألم والأمل على تلك التضاريس الصعبة , من طول الأغوار الشرقي ؛ يؤنس وحشة لياليه الماطرة ؛ والمظلمة أحيانا والمقمرة , تاريخ أمته بأرواح رجالها ؛ التي تأتيه في حلمة وأحلامه , وتزيد من علومه وثقافته ؛ وتُعمّق أفكاره وثقته بنفسه , وتُعِينُه على الشاقِّ من اعمالهِ ؛ لينام بهدوء وسكينة , بعد يومٍ مُتَعبٍ مضني ؛ من العمل والمشي المتواصل اللازم لرعاية الأبقار .
تكاثرت ثروته الفتى "اسماعيل العداربه" لتصبح عشرةً ونيف من الجواميسِ الضخمةِ والأبقار , ومضيفا إلى رصيده العلمي الحرفي والمتواضع , رصيدا علميا روحانيا دينيا عقائدي ًّآخر ؛ بمتابعة حفظَ سورٍ من القرآن الكريم , على يدي معلمه واستاذه ابن مهنته راعي الأبقار الشهير "عاجز آل الأقطش" والبصير فاقد الإبصار , كان يكبره سنا ؛ لطيفا وأخا كبيرا رفيقا حنونا , يتناوب التلميذ النشيط الذكي "اسماعيل عداربه" , الخدمة والخدمات لأستاذه ومعلمه , ومتابعة الدروس القرآنية بحفظ آيات الله سبحانه , ناظرا في كتاب الله مصححا حفظ أستاذه , ليعيد قراءة آيات الله الحكيمة على أستاذه "الأقطش" كلما سمحت لهم مهنتم الصعبة في رعاية الأبقار ؛ في سهول وبراري شرق الأردن الغالي , حَفِظَ العديد من سور القرآن الكريم ؛ والتي ذاكرها طوال عمره , ومتذكرا ومترحما على استاذه ومعلمه "الأقطش" , عليه رحمة الله .
"أبا عمر" المهاجر الفلسطيني , المنحدر من أصول قريشه من جده "علي الغماري" الذي سكن جبال مدينة الخليل , مدينة نبي الله ابراهيم "عليه السلام" من مرتفعات الدوايمة , قادما من المغرب العربي ؛ شمال القارة الأفريقية السمراء , ويعود نسبه إلى "الادارسة والسانوسين" الذين هاجروا من قبل ؛ من "مكة المكرمة" مع الفتوحات الإسلامية الأولى , وقد جذبه هذا النسب العريق , ليخطو خطى أجداده , ليقرأ القرآن الكريم وما حفظ من آياته العظيمة ؛ في عبادته وتعبده لله سبحانه وتعالى , ومستعينا بالله لمواجهة الصعوبات الكبيرة ؛ في تلك المرحلة الصعبة من التاريخ الإنساني الأليم من قضية فلسطين .
هذه الظروف والصعوبات ؛ لم تمنع الشاب الناشئ الباحث عن الحياة الكريمة , من خوضه عدة مغامرات شبابية محببة , ونذكر منها ؛ تلك التي درج ورفاقه , نحو الغرب "الأُوروبي" ؛ في سفوح الهضاب المنحدرة من سلسة جبال "الألب" الشهيرة , بين حدود "النمسا" و"المانيا" , قاطعا الطريق البريِّ الطويل , من الأردن وسوريا , مخترقا الأراضي التركية عبر مضيق "البسفور" الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط , متعديا المضيق من خلال جسره المعاصر الذي بني قبل سنوات ؛ نحو الشرق الأوروبي , فغربه متوجها إلى ألمانيا الغربية حينها .
عَلَاْ صوت الشاب "اسماعيل حسين العداربه" وهو يتلُّ آيات الله العظيمة ؛ من القرآن الكريم ؛ والذي حفظه في صباه ؛ وهو يسابق الموت على الجليد ؛ والبرد القارص ؛ والجوع , ويَسْتَخْفِي من رجال البوليس ؛ متسللا بهجرةٍ إلى غربِ المانيا , لعله يحظى بموافقةٍ ألمانيةٍ على هجرتهِ , في تلك البلاد التي برئت اقتصاديا من آثار الحرب العالمية الثانية ؛ والتي دمرتها واقتصادها الحروب المتتالية , وشاء قدر الله "سبحانه" أن يقع ورفاقه بيد "البوليس الألماني" ؛ قبل أن يصل الأماكن الآمنة والتي تسمح للمهاجر ؛ أن يحتمي "بمحامٍ حقوقي" الماني ؛ يستنسخ له موافقةً حكوميةً تسمحُ له بالإقامةِ والعمل ؛ ولربما يُمنح الجنسية الألمانية أيضا , ومحتفظا بجنسيته الأصيلة معا , والحصول على الجنسية الألمانية أو الغربية بشكل عام , تُعطي الـمُتجنّسْ الحقوق الوطنية هناك , ولربما الـمُهجّر الصنديد , صاحبَ القضيةِ الوفيّْ , يصبح صوته أقوى وأقوى ضد الاحتلال الصهيوني الغاشم , في تلك الأقاصِ الغربية التي لا تعرف تاريخنا إلا من خلال القرون الوسطى , وحروبها الاحتلالية الصليبية الظالمة .
ولِـحكْمَةٍ يريدها الله سبحانه , سُجن "أبا عمر" في السجون "الألمانية" و"النمساوية" حينها , وتُدون ذاكرته مواقفا إنسانيةً عظيمةً في السجون "الألمانية" تحفظُ للإنسانِ كرامَتَهِ , وظُروفا مأساويةً مُهينة في السجون "النمساوية" مؤلمة , وكأنه سور ٍ باطنه فيه الرحمة , وظاهره من قبله فيه العذاب , ليخرج مع فريق مغامرته من معتقلهم ؛ مُـجْبرَينَ على العودة من حيث قَدِمُوا ؛ عائدين إلى بلادهم , وفي سَفَرهم وسيرهم بحافلةٍ قديمةٍ أكلَ عليها الدهرُ وشَرِب , ينجو هو ورفاقه من حادث سير رهيب , لتستقر سيارتهم ببطن جبل من سلسلة الجبال الشاهقة ؛ على حافةِ وادٍ سحيق .
وبعد انقاذهم ونقلهم إلى المشفى "النمساوي" , من قبل فريق دفاع مدني متخصص , حيث كانت جراحهم طفيفة "والحمد الله" , انقسم "فريق المغامرة" هذا قسمين , قسم يُكرر محاولة التسلل إلى المانيا مرة أخرى , "وكان لهم ذلك" بعد معاناة صعبة وعصيبة , ليعود "أبا عمر" ادراجه إلى العرين الأردني الصامد , ليستقر به القرار ببيت في العاصمة عمان , ليعود إلى رياضه في سوقِها المتنامي حينها ؛ ليترك بصماتِهِ وأخلاقهِ العالية , ويتذكرها ممن عَمِلَ وتعاملَ معه ؛ في عدة مهن ومهنية عديد .
"فلاح عبدالرحيم" "يرحمه الله" أستاذ مهنته القديم , والصّدِيق الوفيّ الذي صاحبه عقودا عديدةً ومديدة , يَدْعَمَان المقاومةَ الفلسطينيةَ الـمندفعة بقوةٍ دعما لوجستيا بإخلاصٍ وتفاني ؛ دون تميز بين فصائلها العديدة ؛ والتي ظهرتْ في ستينات القرن الماضي ؛ وتَعذْرَ إنفاذُ ديمومة المقاومة المسلحة في ظل استراتيجيات المنطقة , لينسحب الاثنين معا بهدوء , ويُفَضِّلان المقاومة والممانعة المدنية والحياتية الحضرية ؛ بعيدا عن السياسيةِ وصِدَامَاتِها الفكرية و"الأيديولوجية" المعقدة ؛ والتي مرت بها المقاومة المسلحة الفلسطينية في مراحلها ومسارحها الجغرافية العديدة , من "الأردن وسوريا" "لبنان وتونس واليمن" , لتستقر المقاومة الفلسطينية المباشرة اليوم ؛ في قلب خطوط العدو في فلسطين , بشقيه العسكري والسياسي , تعمل بإذن الله على تقويض الإحتلال , وسَنُشاهد نهايتهُ وزوالهُ القادمَ إن شاء الله ...
" أبا عمر" يرفض الاعتراف , بسلبيات العقد الثامن من عمره المديد , مصرا أن يقدم لأبنائه وأحفاده وأقاربه وجيرانه وأصدقاءه كل ما يستطيع , ورغم أنه يقف اليوم إلى جانب عَصَاهُ , التي تسانده كصديق مزعجٍ وافدٍ جديد , يتأمل طولها ولونها وقوتها , لعلها تتناغم في "سمفونيتها" الحركية , ويخفف من عداؤها , وربما يجامُلها كما جامل وصاحب العديد من الناس , ولربما بصحبتها يحكي قصة للأجيال القادمة , أن البساطة في المظهر , والتسكين من أحلام حطام الدنيا , والجهاد من أجل الفكر والمبادئ وقيمها , تجعل عزيمة الرجال أقوى من كل ضعف , وأفضل من كل قوة , في تحقيق المراد المبني على الحق , والمستمد من النوايا التي يرضي عنها الله .
هبت رياح خريف العمر المديدة بالصالحات من الأعمال المقبولة بإذن الله , لينحني ببنيته المتواضعة ؛ متعبدا لله , قارئا لكتاب الله سبحانه ؛ القرآن الكريم , من خلال مصحف ؛ أكبر ما طبعت دور النشر الأردنية , ليعوّض النقص الذي زاره في قوة إبصاره الذي تمتع به فيما مضى , ليَخْتِمَ القرآن مرةً عن والدته ؛ وأخرى عن والده ؛ ويترحم على أخية بِخِتْمَةٍ أخرى , ولا ينسى الأختَ الوحيدةِ الحنونْ , عليهم جميعا رحمة الله , وبعد كل خِتْمَةٍ يرفع يديه للسماء ؛ بالدعاء والتضرعِ إلى الله , أن يقي أبناءه وبناته وأحفاده , من الضلال و العذاب ويدعوا الله لكل معارفه ومحبيه , لتشمل أمة محمد صلى الله عليه والسلام, ويشملنا وإياهم برحمةٍ من عند بجوده وكرمه , ويلهجُ بالدعاء لكل من يقول "لا إله إلا الله" ... لا إله إلا الله محمدا رسول الله ..
وشاكرا لله على نعْمَاءهِ , بالزوجة الصالحةِ التي ساندتهُ طوالَ عمرهِ , تقف جانبه صبّارتا محتسبةً لله سبحانه , خادمةً مخلصةً للعائلةِ الكبيرةِ من الأبناءِ والبناتْ , كريمة لأضيافهم الكُثر ؛ والمحبين من الأهل والأصدقاء والجيران والأنساب , محتسبة خدمتها لله سبحانه , شاكرين لأنعمه على صلاح الأبناء والبنات والأحفاد والذراري المبارك بهم بإذن الله , والمشهود لهم بتعمير المساجد بأنفسهم وأموالهم , ويقفون مع المحتاج قريبا كان أم بعيد , يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة , يَتَقَبْلُ اللهَ منهم نفقاتهم وانفاقهم السَخيّْ من أموالهم وأنفسهم لله , وفقهم الله سبحانه لما يحب ويرضى.
اللهم يا الله جمعتنا في هذه الدنيا على محبتك ؛ وعلى طاعتك وحسن عبادتك , وعلى نهج نبيك محمدا "صلى الله عليه وسلم" , في الحقبة العصيبة من تاريخ أمتنا العظيمة , لحكمة تعلمها ولا نعلم منها إلا القليل القليل , فاجعل ظِلْكَ يُظِلُنا يوم لا ظلَ إلا ظِلك , على منابر من نور , واللقاء يوم السعادة الكبرى ؛ في جنانك التي وعدتها لعبادك المؤمنين , فاجعلنا منهم ؛ آمين آمين آمين .
 
التعديل الأخير:
رد: صفحةٌ انسانيةٌ خالدة من التغريبةِ الفلسطينية "اسماعيل حسين العداربه"

الله يكون في عون الجميع ويرجع الامن والاستقرار في البلدان العربيه اجمعآ
 

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
رد: صفحةٌ انسانيةٌ خالدة من التغريبةِ الفلسطينية "اسماعيل حسين العداربه"

اللهم آمين
نورتم بمروركم وجزاكم الله تعالى خيرا
 

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
رد: صفحةٌ انسانيةٌ خالدة من التغريبةِ الفلسطينية "اسماعيل حسين العداربه"

وفقكم الله لما يحب ويرضى
 

مواضيع مماثلة

أعلى