حكاية بني وبكاء الأكورديون

الدكتور اس او اس

كاتب جديد
إلى كل الذين تذوقوا طعم الجمال في حكايات تروى من الماضي فهم ما زالوا يقرؤون من أجل المتعة الروحية.
حكاية بني وبكاء الأكورديون
تجاوز الوقت الثانية عشر ليلاً, في ذلك الركن القصي من الباحة الخارجية للمنزل, وقف عازف الأكورديون وهو ينقل أصابعه بخفة ورشاقة على اللوحة البيضاء للأكورديون, وقد احتشدت من حوله ذكريات جميلة, كانت الموسيقى تصل إلى القلب بطريقة فيها دفىء للروح، وتابعت الأنامل العزف من روائع الألحان القديمة, وكأنها تقطر حزنا وشوقا لكلّ الذين أرادوا الرحيل عنّا وتركوا خلفهم صورا من الماضي لا زالت منقوشة على جدران القلب وكأنها مغلف وردي اللون اختبأت فيه أجمل الذكريات.
لم تتوقف الأنامل إلا بعد أن حرّكت كل ما في رصيدي من شجون لتلك الأيام الخالية.
على كل حال, هذه هي الموسيقى التي يبدو أنها لا تعرف أن تحمل في ثنايا أنغامها إلا نكهة الحزن العميق والحنين الصادق لتلك الأيام الغابرة, فلا تملك عند سماعها إلاّ أن ينتابك شعور متجذّر من الغربة يفرضها عليك شريط طويل يعج بالذكريات الدافئة لتلك الأمسيات الرائعة.
حدث كل ذلك في الوقت الذي كنت أشاهد فيه من خلال عقلي الباطني فيلما وثائقياً يحكي قصة ولدي وهو يبنى عائلة مع من يحب ويتخيّل ملامح أولاده وبناته في المستقبل بل صالَ وجال في مخيلته وهو يرى نفسه مع حبيبته وقد هرِموا في بلد سادها الأمن والأمان والحرية ، وكأن المعزوفة ألتي تتهادى إلى مسمعه برقة وعذوبة تعبّر عن الفرح ... وفجأة يستيقظ الشاب من حلمه وتخيلاته ويعود للواقع ، ويشعر لوهلة وكأنما هناك ألف قصة حزينة قد نقشت أو كتبت بالدموع على كل إصبع من أزرار الأكورديون وهي تحكي بلغة الموسيقى جزءا من قصة حب لم تصل لنهايتها ولم يشاء القدر أن تكتمل.
وعاد الشاب للغوص في الذكريات تارة يسميها المأساة وتارة يلوم من حوله محمّلاً فشل تجربته لحبيبته وأهل حبيبته ، وتارة يراجع النفس لعلّه يجد ثغرة ليلوم نفسه ويبعد حبيبته عن اللوم.
ويعود صوت الأكورديون مدوياً, وفجأة وكأن ينبوعاً من الموسيقى قد بدأ بالتدفق في عروقه, ثم تخطفه الأنغام من نفسه وحاضره الذي يعيشه لتأخذه في رحلة خيالية عبر النجوم خارج أطراف الزمن أو ربما خلف أسوار العالم المحسوس وبسرعة فائقة إلى الماضي ويوماً يعيش على الأرض وواقعة ، ومع استغراقه في التفكير تحركت في عينه دمعة كانت عصية على النزول من قبل, لأنه طالما حاول خنقها أو إقصائها.
وفجأة .... لست أدري لماذا قفزت لمخيلته هذه المشاهد العجيبة .. صوت فرسان قادمون من بعيد يتبعهم عجيج خيولهم الذي كان يتطاير في الأجواء وكأنها سحب رمادية, هاهم يقتربون شيئا فشيئا يبدو أنها حشود ضخمة من جيوش القيصر وهي تزحف باتجاهنا, هل يا ترى هو القدر المحتوم؟
أم هي البداية لسنوات الحرب القاسية, وفعلا نشبت تلك الحرب الكاسرة, سنوات قاسية على الجميع, وحارب الشباب كلٌّ في موقعه ببسالة نادرة, حتى تعانقت أرواحهم مع الموت بسلام ...
و بعد أن انتهى كل شيء, بدأ المشهد الذي اختزنه في مخيلته ينحسر شيئا فشيئا عن حطام متناثر في أرجاء المكان ودخان يتصاعد من هنا وهناك وكأنما عاصفة هوجاء قد ضربت المكان فقلبت القدور بما فيها من بقايا أطعمة ولم تهدأ حتى تركت ورائها حطاما مدموغا بقسوة الظلم وبقايا قناديل وهي معلقة تتأرجح بكآبة على تلك الشرفات المحطمة, ولا أدري لماذا استقرت في مخيلته تلك الصورة التي رسمتها الأحداث دون إرادة منه.
هل كانت الحرب حقيقة !!! أم هو يتخيل الحرب التي دارت اختلطت عليه الحقيقة مع الحلم.
هل الحقيقة أنه خاض حربا للدفاع عن حبه ...هزم فيها لقلّة عتاده وحنكته وأن خصمه يتمترس خلف جدار الأبوة والعادات والتقاليد وما شابه من المتاريس التي يستعملونها أصحاب العقول المتصلبة بل المتحجرة؟
كان الرعد يومها يقصف بشدة محدثاً دوياً هائلاً في الأجواء, و كان شكل القمر يبدو غريبا في تلك الليلة وهو يظهر من بين الغيوم تارة ثم يختفي تارة أخرى وكأنه يبعث بشعاع غامض أزرق اللون لا تفسير له إلاّ أن يكون إشارة باهتة على بقايا أحلام عصفت بها الريح فجأة فتهاوت أمام عينيه.
ومرت عليه فترة من الزمن وهو جالس بين الرماد وبقايا الدخان المتصاعد من أطراف حلمه الذي لم يكتمل ويتخيلهم وهم يحزمون ما تبقى من أمتعتهم استعداداً للرحيل الأخير.
كان المطر يتساقط بغزارة هنا وهناك, وعلى أريكة قديمة جلست حبيبته الطيبة بصمت تحمل آلاف المعاني, وتأرجح الضوء الذي كان ينبعث من القنديل لشدة الهواء الذي تنفثه الحبيبة من الشقوق المتصدعة في صدرها الذي لم يحتمل أن يكون بين مطرقة الحب وسندان الأبوة .... مرت بها لحظة و كأنها دهر من الزمن, ثم انسكبت دمعة حارة على خدها المتجعد, حدث كل ذلك في اللحظة التي كانت تراقب فيها حوافر الحصان الذي حمل حبيبها بعيداً وهو يغادر ويبتعد عبر طريق الآلام باتجاه المجهول وهي تحمل فوق ظهرها المتعب أوّل حبٍّ سكن فؤادها.... ويبدو أن هاجسا ما دخل إلى قلبها المسكين وكأنه يقول لها: أخشى أن يكون هذا الرحيل هو الرحيل الأخير ..... إنها أقدار الله سبحانه وتعالى وهي حق لا ريب فيه, وفي هذه الأثناء, ظلّ الفارس يبتعد إلى أن اختفى فجأة وكأنه غاص في ظلمة الأفق عبر ذلك المدى الذي كان يمتد من أمامها.
ومع ابتعاد الفارس بدأت سنوات الألم بالنسبة لهم, وهكذا ... فقد حدثت تلك المأساة المروعة وتسارعت فصولها بعد أن تهاوى كل شيء أمام أعينهم فجأة في فترة من الزمن هي من أصعب الفترات وأحرجها في حياتهم التي ما زالت غضّه.
لكن يبقى السؤال مطروحا كم وكم من القصص ستروي لنا أيها الأكورديون الحزين وقد أصبح حالك كعصفور تائه وقف يزقزق ويغرد على أطراف النوافذ العتيقة حتى بزوغ الفجر وكأنه يهمس بصلاة خفية إلى خالق الأكوان يا ربي الحبيب, متى ستنتهي فصول تلك الغربة الطويلة في حياتي ؟
ومتى تستريح الأرواح المتعبة من ضيق الدنيا وقسوتها....
(( وسمع والده وهو يهمس : من خلال تجاربي التي عشتها في هذه الحياة فقد أصبح الشيء المؤكد بالنسبة لي هو أن تاريخ البشرية هو نفسه وطريق الآلام هي ذاتها)).
ولوهلة وكأن النهر ينتظر بشوق تلك اللحظة التي يسمع فيها وقع أقدام الذين ارتحلوا عنه مرة, فقد كان صوت خرير المياه الذي يصدر عنه كأنما يحكي ألاف القصص الحزينة التي حملتها إليه نسائم الشتاء الرطبة أو جاءت بها حبات المطر ثم ألقت بها هناك, وكأنها تهمس إليه بأسرار عميقة لم يكن يعرفها, ربما عن فتاة شابة وهي تقف خلف النافذة أيام الفرح الأولى, تنتظر وتراقب الأفق من بعيد في يوم شتائي حيث كان الضباب ينتشر في المكان, وكلما اطلّ شبح إنسان من بعيد, تلمح في جمال عينيها تلك اللهفة البريئة وكأنها تسأل مصابيح الطريق فلعلّ هذا الذي أطل من بعيد هو الفارس الذي كانت تنتظر قدومه لزيارتهم في ذلك المساء, هذه القصص والحكايات عن يوميات الحياة البريئة من هنا وهناك تبدو كالورود وهي تتحرق شوقا لاستقبال شمس الصباح, أو ربما بعض الحكايات عن فرح الأطفال في ليالي العيد وأيام الحصاد, أو عن دمعة سالت على خد طفل بريء وهو يقف على عتبة البيت وينتظر بشوق عودة والده من أسفاره البعيدة, أو حكايات عن عجوز في الستين من عمره وهو يتحدث مع ولده عن تجاربه في الحياة وقد أصاب الولد الملل لكنه لا يجرئ على إظهاره .
كان ينتظر بفارغ الصبر بداية جديدة, لكن كل ذلك بلغة لا يفهمها إلا القليل ممن مسهم عبق السحر الذي كان يفوح من بين تلك الكلمة السحرية ألا وهي الحب.
حدثت كل تلك التخيلات بلحظة, وكان عازف الأكورديون ما زال يعزف أجمل الألحان حتى وصل إلى ذروة اندماجه مع الموسيقى ليتحول جمال النغمات عند تلك اللحظة إلى لغة رقيقة استطاعت أن تترجم بكاء الأكورديون على تلك الأزمنة الجميلة, ومع ذلك فهناك إحساس عميق ظل يراود النفس, لغز قائم بذاته...
ما هو الحب ؟
و تبقى الكلمات والحكايات مدفونة بين الغيوم بصمت, وستبقى كذلك إلى أن يأتي احد الملهمين يوماً ما في سكون الليل وتحت ضوء القمر ليفكك أسرار تلك الحكايات القديمة ورموزها الغامضة ...
والدك د.اس ا واس
29/12/2014 م
 

مواضيع مماثلة

أعلى