التواضع ؛ بحث متكامل من التراث الإسلامي ..

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
ج1/1(التواضع) .. بسم الله الرحمن الرحيم ... ورويَ عن أَنَسٍ "رضي الله عنه"، يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ بِعَبْدِه »"أي عبده يركب خلفه" .. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ رُءُوسِ التَّوَاضُعِ أَنْ تَرْضَى بِأَدْنَى الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تَبْدَأَ مَنْ لَقِيتَ بِالسَّلَامِ، وَأَلَّا تُحِبَّ أَنْ تُمْدَحَ بِالتَّزْكِيَةِ وَالْبِرِّ» .. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " تُغْفِلُونَ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ: التَّوَاضُعَ " .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَوَاضُعِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ» .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ "
ج1/2(التواضع) .. أنْ نَظنُ في المسلمين أنهم خيرا منا .. حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ: ذَكَرُوا التَّوَاضُعَ عِنْدَ الْحَسَنِ وَهُوَ سَاكِتٌ حَتَّى إِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: أَرَاكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمُ الْكَلَامَ فِي التَّوَاضُعِ قَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ التَّوَاضُعُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَلَا يَلْقَى مُسْلِمًا إِلَّا ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ» .. رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً، وَضَعَهُ اللهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ " .. وقال الصالحون "وانفع مَا عالج بِهِ الْمُؤمن فِي امْر دينه قطع حب الدُّنْيَا من قلبه فَإِذا فعل ذَلِك ؛ هان عَلَيْهِ ترك الدُّنْيَا وَسَهل عَلَيْهِ طلب الْآخِرَة ؛ اصل اداته الْفِكر وَقصر الامل ؛ ومراجعة التَّوْبَة وَالطَّهَارَة ؛ واخراج الْعِزّ من الْقلب ؛ وَلُزُوم التَّوَاضُع وَعمارَة الْقلب بالتقوى ؛ وادامة الْحزن وَكَثْرَة الْهم بِمَا هُوَ وَارِد عَلَيْهِ" " ويقلل الْفِكر فِي الدُّنْيَا وَفِي نعيمها ؛ فَإِن الْقلب مَعَ الْفِكر يحيا مع الرغبة في ما عند الله سبحانه "
ج1/3(التواضع) .. قبول الحق ؛ وعدم رده ؛ ويُرجعْ نفسهُ وما يملك لله "سبحانه" "وَمن عَلامَة التَّوَاضُع الا يَدْعُونا اُحْدٌ الى حق الا قبلناه ؛ وَلم نرده ؛ وَلَا نرى احدا من الْمُسلمين الا رَأَيْنا أنَفُسنا دونه ؛ وَالنَّاس يتفاضلون فِي الْمعرفَة بالإيثار وَالرِّضَا ؛ وَالشُّكْر وَالْحب والثقة ؛ وَالْخَوْف وَالْيَقِين وَالصَّبْر ؛ وادنى الدَّرَجَات الصَّبْر ؛ واكثرها كلهَا الْيَقِين على الله سبحانه".. " واشر الشَّرّ الَّذِي لَا خير فِيهِ ؛ وَلَا قوام لخير مَعَه ؛ الْكبر ؛ وَخير الْخَيْر الَّذِي لَا شَرّ فِيهِ ؛ التَّوَاضُع ؛ وَهُوَ ان تضع نَفسك دون النَّاس ؛ وَالْكبر ان ترفعها فَوق النَّاس ؛ وَمَا خير لعبد آثر على التَّوَاضُع شَيْئا " .. " وَمن أحسن الاخلاق ؛ أن تكون سجية العَبْد التَّوَاضُع ؛ وَمن أحسن الفعال ؛ الاحسان الى من أَسَاءَ إِلَيْك" .. ومن التواضع ما تم وصفه :: التَّوَاضُع أن نعتقد ونجزم يقينا ؛ أننا نملك من أنفسنا ودنيانا ؛ ما كنا نملكه قبل أن نولد وما سنملكه بعد الممات ؛ تلك سمة المتواضع ؛ في منزلة الفقراء المعوزين إلى الله"
ج1/4(التواضع) .. والتواضعِ :: أن نُري الله منا ما يرضى ؛ وما يَأْتِينا مِنْهُ شَيْء الا كَانَ لنا بِهِ رضى ... ويروى عَن بعض الْحُكَمَاء انه كتب الى اخ لَهُ "اوصيك يَا أخي بإصلاح مَا بَيْنك وَبَين الله ؛ وَاعْلَم ان ايامك قَليلَة ؛ ونفسك وَاحِدَة فَإِن فنيت ايامك فَلَا رَجْعَة لَك فِيهَا ؛ وَلَا عوض لَك مِنْهَا ؛ وان عطبت نَفسك فَلَا نفسٌ لَك سواهَا ؛ و اصلاح مَا بَيْنك وَبَين الله ؛ الا يَأْتِيهِ مِنْك شَيْء الا كَانَ فِيهِ لَهُ رضى ؛ وَلَا يَأْتِيك مِنْهُ شَيْء الا كَانَ لَك بِهِ رضى؛ فَإِن ضعفت عَن الرضى ؛ بِكُل مَا يَأْتِيك من حكم الله وامره ؛ فَلَا تضعفن عَن الصَّبْر فَإِن لَهُ الرِّضَا بِحَال عَبده ؛ مَا دَامَ العَبْد رَاضِيا بِحكمِهِ " .. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «مَنْ تَوَاضَعَ تَخَشُّعًا لِلَّهِ، رَفَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .. ومن تواضعِ رسول الله ؛ أن يقدروه قدره ؛ كعبدِ لله ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْفَعُونِي فَوْقَ حَقِّي , فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي رَسُولًا»
ج1/5(التواضع) .. وَقَالَ حَكِيم: عشرَة تورث: التَّوَاضُع ؛" التَّوَاضُع يُورث الرّفْعَة، والندامة تورث التَّوْبَة، ورؤية الْمِنَّة تورث الشُّكْر، والإياس من النَّاس يُورث التَّوَكُّل، وَالْعُزْلَة من الْخلق تورث الانس بِالْحَقِّ وكظم الغيظ يُورث زِيَادَة الْعقل، وَصدق النِّيَّة يُورث الْجهد فِي الْعَمَل، وَزِيَادَة الْعَمَل تورث زِيَادَة الخشية، وَمُخَالفَة النَّفس تورث موافقة الرب عز وَجل، وَاسْتِعْمَال الْمُرُوءَة فِي دين الله يُورث مقَام الْقرب من الله تعالي" .. قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه "التواضع يرفع المرء قدرا ويعظم له خطرا ويزيده نبلا .. حتى لا يرى أحدا من العالم إلا ويرى نفسه دونه في الطاعات وفوقه في الجنايات" .. وفي موضعٍ آخر قال " والتواضع يكسب السلامة ؛ ويورث الألفة ؛ ويرفع الحقد ؛ ويذهب الصد ؛ وثمرة التواضع :: المحبة :: كما أن ثمرة القناعة :: الراحة :: وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه ؛ كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته ؛ وكيف لا يتواضع ؛ من خلق من نطفة مذرة ؛ وآخره يعود جيفة قذرة"
ج1/6(التواضع) .. وما رأيت أحدٌ تكبر على من دونه ؛ إلا ابتلاه اللَّه بالذلةِ لمن فوقه .. قال أَبُو حاتم "رَضِيَ اللَّه عنه"" أفضل الناس ؛ من تواضع عَن رفعة ؛ وزَهُد عَن قدرة ؛ وأنصف عَن قوة ؛ ولا يُترك المرء المتواضع ؛ إلا عند استحكام التكبر ؛ فلا يتكبر على الناس أحد إلا بإعجابه بنفسه ؛ وعجب المرء بنفسه أحد حماد عقله ؛ وما رأيت أحد تكبر على من دونه ؛ إلا ابتلاه اللَّه بالذلة لمن فوقه" .. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: التَّوَاضُعُ أَحَدُ مَصَائِدِ الشَّرَفِ .. وَكُلُّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ عَلَيْهَا إِلَّا التَّوَاضُعَ , وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ :: ثَمَرَةُ الْقَنَاعَةِ الرَّاحَةُ، وَثَمَرَةُ التَّوَاضُعُ الْمَحَبَّةُ".. كما أن زكاة المال الصدقة، فزكاة الشرف التواضع؛ وقال الوليد: خدمة الرجل أخاه شرف .. وقال بكر بن عبد الله: إذا رأيت أكبر منك فقل :: سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو خير منّي، وإذا رأيت أصغر منك فقل :: سبقته بالذنوب والمعاصي فهو خير منّي .. وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنْ قَبْلُ، أَخْلَاقُهُمُ التَّوَاضُعُ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
ج1/7(التواضع) .. وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنْ قَبْلُ، أَخْلَاقُهُمُ التَّوَاضُعُ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ؛ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ أَتَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ ضَيْفٌ، فَلَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ، وَكَانَ يَكْتُبُ شَيْئًا وَالضَّيْفُ عِنْدَهُ، كَادَ السِّرَاجُ أَنْ يَنْطَفِئَ فَقَالَ الضَّيْفُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ؟ قَالَ: لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ ضَيْفَهُ.
قَالَ: أَفَأُنَبِّهُ الْغُلَامَ؟ قَالَ: لَا ؛ هِيَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا .. فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ الْبَطَّةَ فَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ .. فَقَالَ الضَّيْفُ: قُمْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ذَهَبْتُ وَأَنَا عُمَرُ وَرَجَعْتُ وَأَنَا عُمَرُ، وَخَيْرُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ مُتَوَاضِعًا" .. وَروَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَوَاضَعَ رَجُلٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» .. كان يقال: الشرف في التواضع ، والعزّ في التّقوى ، والغنى في القناعة .. والتواضع عند الدولة، والعفو عند القدرة، والسخاء مع القلّة، والعطيّة من غير منّة، والنصيحة للعامّة.
ج1/8(التواضع) .. رَأْسُ التَّوَاضُعِ أَنْ تَبْدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَرْضَى بِالدُّونِ مِنَ الْمَجْلِسِ .. وَرَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّهُ قَالَ: «رَأْسُ التَّوَاضُعِ أَنْ تَبْدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَرْضَى بِالدُّونِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تَكْرَهَ أَنْ تُذَكِّرَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى» اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكُفَّارِ وَالْفَرَاعِنَةِ، وَالتَّوَاضُعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْكُفَّارَ بِالْكِبْرِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} ، وَقَالَ: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، وَقَالَ: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .. يقال: المنظر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسّرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التّجارب، والشرف محتاج إلى التّواضع، والنجدة محتاجة إلى الجدّ.
ج1/9(التواضع) .. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , أَنَّهُ بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرًا عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَدَخَلَ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ: طَرِّقُوا لِلْأَمِيرِ، طَرِّقُوا لِلْأَمِيرِ "افتحوا له طريق" فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خُلُقُهُمُ التَّوَاضُعَ، وَكَانُوا أَعِزَّاءَ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" .. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأَنَّهُ قَالَ: «مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِزًّا» .. فتىً زاده عـــــــزّ المهابة ذلّة
فكلّ عزيز عنـــــده متواضع
وقال أبو العتاهية:
يا من تشرّف بالــــــدّنيا وزينتها
ليس التّشرّف رفع الطّين بالطين
إذا أردت شريـــــف النّاس كلّهم
فانظر إلى مــلك في زيّ مسكين
ذاك الّذي عظــــمــت والله نعمته
وذاك يصـــــــــــلح للــدّنيا وللدّين
ج1/10(التواضع) .. ثلاثة لا تكون إلا في ثلاثة. الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى .. قَالَ الْفَقِيهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُقَالُ: عَشْرُ خِصَالٍ تُبْلِغُ مَنْزِلَةَ الْأَخْيَارِ، وَيُنَالُ بِهَا الدَّرَجَاتُ :: أَوَّلُهَا :: كَثْرَةُ الصَّدَقَةِ .. وَالثَّانِي :: كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ .. وَالثَّالِثُ :: الْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِالْآخِرَةِ، وَيُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا .. وَالرَّابِعُ :: صِلَةُ الرَّحِمِ .. وَالْخَامِسُ :: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ .. وَالسَّادِسُ :: قِلَّةُ مُخَالَطَةِ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ شَغَلَهُمْ غِنَاهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ .. وَالسَّابِعُ :: كَثْرَةُ التَّفَكُّرِ فِي مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ غَدًا .. وَالثَّامِنُ :: قِصَرُ الْأَمَلِ، وَكَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ .. وَالتَّاسِعُ :: لُزُومُ الصَّمْتِ، وَقِلَّةُ الْكَلَامِ .. وَالْعَاشِرُ :: التَّوَاضُعُ ؛ وَلُبْسُ الدُّونِ وَحُبُّ الْفُقَرَاءِ ؛ وَالْمُخَالَطَةُ مَعَهُمْ ؛ وَقُرْبُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ؛ وَمَسْحُ رُءُوسِهِمْ .. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: تَمَامُ الْعِبَادَةِ فِي صِدْقِ النِّيَّةِ، وَتَمَامُ صَلَاةِ الْعَمَلِ فِي التَّوَاضُعِ ، وَتَمَامُ هَذَيْنِ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَتَمَامُ هَذِهِ كُلُّهَا بِالْهَمِّ ، وَالْحُزْنِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَتَمَامُ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، مُلَازَمَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِقَلْبِكَ، وَكَثْرَةُ التَّفَكُّرِ فِي ذُنُوبِكَ.
ج1/11(التواضع) .. الْكِبَرِ وَالتَّوَاضُعِ يُقَالُ فُلان مُتَكَبِّر، مُتَجَبِّر، مُتَعَظِّم، مُتَعَجْرِف، مُتَغَطْرِف، مُتَغَطْرِس، مُتَأَبِّه، مُتَبَذِّخ، شَامِخ، مُنْتَفِخ، تَيَّاه ، مُخْتَال .. وَإِنَّهُ لَشَدِيد الْكِبْر، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَبْرِيَّة، وَالْجَبَرُوت، وَالْعَظَمَة، وَالْعَجْرَفَة، وَالْغَطْرَفَة ، وَالْغَطْرَسَة، وَالأُبَّهَة، وَالْبَذَخ، وَالشُّمُوخ وَالتِّيه، وَالْخُيَلاء .. وَإِنَّهُ لَرَجُلٌ مَزْهُوٌّ، مَنْخُوّ، مُعْجَب بِنَفْسِهِ، ذَاهِب بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ زَهْو، وَنَخْوَة، وَعُجْب، وَإِعْجَاب، وَفُلانٌ مِنْ أَهْل الزَّهْو وَالْبَأْو وَهُوَ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ .. وَقَدْ زُهِيَ الرَّجُل، وَنُخِيَ، وَانْتَخَى، وَأَزْهَاهُ الْكِبْر، وَذَهَبَ بِهِ التِّيه، وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ مَذْهَب .. وَمُتَوَاضِعُ النَّفْسِ، مُتَطَأْمِن النَّفْس، مُتَطَأْمِن الْجَانِب، خَافِض الْجَنَاحِ، مُتَجَافٍ عَنْ مَقَاعِدَ الْكِبْر، نَاءٍ عَنْ مَذَاهِبَ الْعُجْب لا يَحْدُوهُ حَادِي الْخُيَلاءِ، وَلا يُثْنِي أَعْطَافَهُ الزَّهْوُ، وَلا يَتَهَادَى بَيْنَ أَذْيَال التِّيه، وَقَدْ تَوَاضَعَ الرَّجُلُ، وَتَطَأْمَنَ، وَتَطَأْطَأَ، وَتَصَرَّعَ، وَتَدَّلَى.
وَتَقُولُ :: تَطَأْمَنْتُ لِفُلان تَطَأْمُن الدُّلاة وَهُمْ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ بِالدِّلاءِ، وَقَدْ هَضَمْتُ لَهُ نَفْسِي، وأَوْطَأْتُهُ .
ج1/12(التواضع) .. واعلم أنّ التواضع يظهر بمعان خمسة: بالقول، والفعل، والزيّ، والأثاث، والمنزل، يكون في المؤمن بعضها، فمن كملت فيه فهو متواضع، والكبر ضد التواضع , وهو يظهر أيضاً بأضداد هذه الخمسة يبتلي المؤمن ببعضها ويعافى من البعض، فمن كملت فيه فهو متكبر، وحقيقتها في القلب , وظاهرها بالأفعال والأقوال , ثم الورع عن الشبهات والمشكلات من العلوم والأعمال .. "النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ، وَالْبَلَاءُ الَّذِي لَا يُرْحَمُ صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ". وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ .. وَلَيْسَ إلَى مَا يُكْسِبُهُ الْكِبْرُ مِنْ الْمَقْتِ حَدٌّ، وَلَا إلَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعُجْبُ مِنْ الْجَهْلِ غَايَةٌ، حَتَّى إنَّهُ لَيُطْفِئَ مِنْ الْمَحَاسِنِ مَا انْتَشَرَ، وَيَسْلُبَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا اشْتَهَرَ .. وَنَاهِيَك بِسَيِّئَةٍ تُحْبِطُ كُلَّ حَسَنَةٍ ؛ وَبِمَذَمَّةِ تَهْدِمُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ، مَعَ مَا يُثِيرُهُ مِنْ حَنَقٍ وَيُكْسِبُهُ مِنْ حِقْدٍ .. وَقَالَ حكيم : تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ لَك مِنْ شَرَفِك. وَكَانَ يُقَالُ: اسْمَانِ مُتَضَادَّانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: التَّوَاضُعُ وَالشَّرَفُ.
ج1/13(التواضع) .. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ بَرِئَ مِنْ ثَلَاثٍ نَالَ ثَلَاثًا: مَنْ بَرِئَ مِنْ السَّرَفِ نَالَ الْعِزَّ. وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَفَ. وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ نَالَ الْكَرَامَةَ.. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ :: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ .. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ :: مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ .. وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلَايَاتُ لِقَوْمٍ أَخْلَاقًا مَذْمُومَةً يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ مَحْمُودَةً يَبْعَثُ عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ الْأَحْوَالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ مِنْ الْأَخْلَاقِ مَكْنُونَهَا، وَمِنْ السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا، لَا سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ .. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ حُبِّ الْآخِرَةِ: كَثْرَةُ الْبُكَاءِ ؛ وَالذِّكْرِ لَهَا ، وَدَوَامُ الشَّوْقِ إِلَيْهَا، وَبُغْضُ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِهَا " .. وَقَالَ مَنْصُور بْن عمار أَحْسَن لباس العبد التواضع والانكسار ؛ وأحسن لباس العارفين ؛ التقوى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} .. وسئل الفضيل عَنِ التواضع، فَقَالَ: تخضع للحق وتنقاد لَهُ تقبله مِمَّن قاله .
ج1/14(التواضع) .. وَقَالَ ابْن المبارك التكبر عَلَى الأغنياء ؛ والتواضع للفقراء ؛ من التواضع .. وقيل: لأبي يَزِيد مَتَى يَكُون الرجل متواضعا فَقَالَ: إِذَا لَمْ ير لنفسه مقاما ولا حالا ؛ ولا يرى أَن فِي الخلق من هُوَ شر منه .. وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عَلَيْهَا ؛ والكبر محنة لا يرحم عَلَيْهَا ؛ والعز فِي التواضع ؛ فمن طلبه فِي الكبر لَمْ يجده .. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: التواضع حسن فِي كُل أحد لكنه فِي الاغنياء أَحْسَن , والتكبر سمج فِي كُل أحد لكنه فِي الفقراء أسمج ، وَقَالَ ابْن عَطَاء: التواضع قبول الحق مِمَّن كَانَ .. وَقَالَ عروة بْن الزُّبَيْر :: رأيت عُمَر بْن الْخَطَّاب "رضى اللَّه عَنْهُ" وعلى عاتقه قربة ماء فَقُلْتُ :: يا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ؛ لا ينبغي لَك هَذَا فَقَالَ :: لما أتاني الوفد سامعين مطيعين دخلتْ فِي نفسي نخوة ؛ فأحببت أَن أكسرها , ومضي بالقربة إِلَى حجرة امْرَأَة من الأنصار فأفرغها فِي إنائها .. "رؤى أَبُو هُرَيْرَة وَهُوَ أمِير الْمَدِينَة وعلى ظهره حزمة حطب وَهُوَ يَقُول :: طرقوا للأمير" .. من رأى لنفسه قيمة لَمْ يذق حلاوة الخدمة .
ج1/15(التواضع) .. من التواضع أَن يشرب الرجل من سؤر أخيه .. وَقَالَ بشر: سلموا عَلَى أبناء الدنيا بترك السَّلام عَلَيْهِم .. وَقَالَ شُعَيْب بْن حرب :: بينا أنا فِي الطواف إذ لكزني إِنْسَان بمرفقه ؛ فالتفت إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ الفضيل بْن عياض فَقَالَ :: يا أبا صَالِح ؛ إِن كنت تظن أَنَّهُ شهد الموسم شر منى ومنك فبئسما ظننت .. وَقَالَ بَعْضهم رأيت فِي الطوف إِنْسَانا بَيْنَ يديه شاكريه يمنعون النَّاس لأجله عَنِ الطاف ؛ ثُمَّ رأيته بَعْد ذَلِكَ بمدة عَلَى جسر بغداد ؛ يسأل النَّاس شَيْئًا .. التواضع أَن لا ترى لأحد إِلَى نفسك حاجة لا فِي الدين ولا فِي الدنيا .. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد ؛ اخلولقوا ؛ واخشوشنوا "أي البسوا الخلقان واستعملوا الخشونة في الأشياء" .. وقد قيل زين الحجيج أهل اليمن , لأنهم على هيئة التواضع والضعف وسيرة السلف .. والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع .. وإذا دَخَلْتَ مَجْلِسًا فَالْأَدَبُ فِيهِ الْبِدَايَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَتَرْكُ التَّخَطِّي لِمَنْ سَبَقَ وَالْجُلُوسُ حَيْثُ اتَّسَعَ وَحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى التَّوَاضُعِ
ج1/16(التواضع) .. وقيل :: اكْتِسَابُ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ ؛ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْخُلُقُ الْمَطْلُوبُ ؛ فَمَنْ أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يُحَصِّلَ لِنَفْسِهِ خُلُقَ الْجُودِ ؛ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ تعاطي فعل الجواد ؛ وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ ؛ فَلَا يَزَالُ يُطَالِبُ نَفْسَهُ وَيُوَاظِبُ عَلَيْهِ تَكَلُّفًا مُجَاهِدًا نَفْسَهُ فِيهِ ؛ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ طَبْعًا لَهُ ؛ وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ فَيَصِيرَ بِهِ جَوَادًا ؛ وَكَذَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَصِّلَ لِنَفْسِهِ خُلُقَ التَّوَاضُعِ ؛ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكِبْرُ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى أَفْعَالِ الْمُتَوَاضِعِينَ مُدَّةً مَدِيدَةً وَهُوَ فِيهَا مُجَاهِدٌ نَفْسَهُ ؛ وَمُتَكَلِّفٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ خُلُقًا لَهُ وَطَبْعًا فَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ .. وَجَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا تَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ وَغَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُ لَذِيذًا ؛ فَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَلِذُّ بَذْلَ الْمَالِ الذي يبذله دُونَ الَّذِي يَبْذُلُهُ عَنْ كَرَاهَةٍ ؛ وَالْمُتَوَاضِعُ هُوَ الَّذِي يَسْتَلِذُّ التَّوَاضُعَ وَلَنْ تَرْسَخَ الْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ فِي النَّفْسِ مَا لَمْ تَتَعَوَّدِ النَّفْسُ جَمِيعَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ ؛ وَمَا لَمْ تَتْرُكْ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ السيئة وما لم تواظب عليه مُوَاظَبَةَ مَنْ يَشْتَاقُ إِلَى الْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا وَيَكْرَهُ الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ .. فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ لَمْ يَنَلْ حَلَاوَةَ الشِّفَاءِ وَإِنَّمَا تَهُونُ مَرَارَةُ هَذَا الدَّوَاءِ بالشفاء .
ج1/17(التواضع) .. قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بغير الحق} وقال عز وجل {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جبار} وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وقال تعالى {إنه لا يحب المستكبرين} وقال تعالى {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} .. من حديث أبي هريرة :: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ؛ وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ؛ فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا ؛ أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ .. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال :: التقى عبد الله بن عمرو ؛ وعبد الله بن عمر على الصفا ؛ فتواقفا ؛ فمضى ابن عمرو ؛ وأقام ابن عمر يبكي ؛ فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؛ فقال هذا يعني عبد الله بن عمرو ؛ زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه" ..
ج1/18(التواضع) .. العفو ؛ ومخالطة المساكين ؛ ومجالسة العلماء وأهل الحكمة ؛ من التواضع .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :: "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" {ما زاد عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ؛ وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لله ؛ إلا رفعه الله} .. وَقَالَ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :: {طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ ؛ وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ؛ وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ ؛ وخالط أهل الفقه والحكمة" .. المخالطة ؛ التَّوَاضُعُ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَامَاتِ ؛ وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْوَحْدَةِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ سَبَبًا في اختيار العزلة .. وَمِنَ الْوَفَاءِ ؛ أَنْ لا يتغير حاله في التواضع مَعَ أَخِيهِ ؛ وَإِنِ ارْتَفَعَ شَأْنُهُ وَاتَّسَعَتْ وِلَايَتُهُ وعظم جاهه ؛ فالترفع عَلَى الْإِخْوَانِ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْوَالِ لُؤْمٌ .. قَالَ الشَّاعِرُ
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَــا أَيْسَرُوا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :: "أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت ؛ وهو أول العبادة؛ والتوكل على الله ؛ والتواضع ؛ والزهد في الدنيا "صحيح السند .
ج1/19(التواضع) .. وقال يوسف بن أسباط :: يجزى قليل الورع من كثير العمل ؛ ويجزى قليل التواضع من كثير الاجتهاد .. وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو؛ فقال :: أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ ؛ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِيٍّ قَبِلْتَهُ ؛ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ الناس قبلته .. وقال ابن المبارك :: رأس التواضع ؛ أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا ؛ حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل , وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا ؛ حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل .. وقال قتادة :: من أعطى مالاً أو جمالاً أو ثياباً أو علماً ؛ ثم لم يتواضع فيه , كان عليه وبالاً يوم القيامة .. وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام :: "إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة ؛ أتممها عليك" .. وقيل لعبد الملك بن مروان ؛ أي الرجال أفضل؟ قال :: "من تواضع عن قدرة ؛ وزهد عن رغبة ؛ وترك النصرة عن قوة".
ج1/20(التواضع) .. الشكر من التواضع .. وقال كعب :: "ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله , وتواضع بها لله ؛ إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ؛ ورفع بها درجة في الآخرة , وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها ؛ ولم يتواضع بها لله ؛ إلا منعه الله نفعها في الدنيا ؛ وفتح له طبقاً من النار ؛ يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه" .. ودخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال :: يا أمير المؤمنين ؛ إن تواضعك في شرفك ؛ أشرف لك من شرفك .. فقال ما أحسن ما قلت !! فقال يا أمير المؤمنين :: إن امرأ أتاه الله جمالاً في خلقته ؛ وموضعاً في حسبه ؛ وبسط له في ذات يده ؛ فعفَّ في جماله ؛ وواسى من ماله ؛ وتوضع في حسبه ؛ كُتب في ديوان الله ؛ من خالص أولياء الله " فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده .. خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون التواضع ؛ فقال لهم الحسن :: أتدرون ما التواضع ؟ التواضع :: أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً .
ج1/21(التواضع) .. الجلوس مع المساكين من التواضع .. وكان سليمان بن داود عليهما السلام ؛ إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف ؛ حتى يجيء إلى المساكين ؛ فيقعد معهم ؛ ويقول :: مسكين مع مساكين .. وقال بعضهم :: "كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون ؛ فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة" .. وقال مجاهد :: "إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام ؛ شمخت الجبال وتطاولت ؛ وتواضع الجودي فرفعه الله فوق الجبال ؛ وجعل قرار السفينة عليه" .. وقال يونس بن عبيد :: "وقد انصرف من عرفات لم أشك في الرحمة , لولا أني كنت معهم , إني أخشى أنهم حرموا بسببي" .. ويقال :: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه ؛ وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه .. وقال زياد النمري :: الزاهد بغير تواضع ؛ كالشجرة التي لا تثمر .. وقال مالك بن دينار :: لو أن منادياً ينادي بباب المسجد ؛ ليخرج شركم رجلا ؛ والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب ؛ إلا رجلاً بفضل قوة أو سعى .. قال :: فلما بلغ ابن المبارك قوله ؛ قال :: بهذا صار مالك مالكاً .. وقال الفضيل :: من أحب الرياسة لم يفلح أبداً .
ج1/22(التواضع) .. ليتني لم أكنْ سببَ هلاكُكُم .. والكبر :: من يرى في الناس من هو أشرّ منه .. وقال موسى بن القاسم :: كانت عندنا زلزلة ؛ وريح حمراء ؛ فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت :: يا أبا عبد الله , أنت إمامنا , فادع الله عز وجل لنا ؛ فبكى ثم قال :: ليتني لم أكن سبب هلاككم ؛ قال :: فرأيت النبي "صلى الله عليه وسلم" في النوم فقال :: إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل .. ويقال :: من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب .. وعن أبي الفتح بن شخرف قال :: رأيت عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" في المنام فقلت له :: "يا أبا الحسن عظني ؛ فقال لي :: ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله ؛ وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل" .. وقال أبو سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف نفسه .. وقال أبو يزيد :: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه ؛ فهو متكبر ؛ فقيل له فمتى يكون متواضعاً , قال :: "إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً" .. وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه .
ج1/23(التواضع) .. ويقال التواضع في الخلق كلهم حسن ؛ وفي الأغنياء أحسن ؛ والتكبر في الخلق كلهم قبيح ؛ وفي الفقراء أقبح .. ويقال :: " لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل ؛ ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل ؛ ولا أمْنَّ إلا لمن خاف الله عز وجل ؛ ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل" .. وقال أبو علي الجوزجاني :: "النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد ؛ فمن أراد الله تعالى هلاكه ؛ منع منه التواضع والنصيحة والقناعة ؛ وإذا أراد الله تعالى به خيراً ؛ لطف به في ذلك ؛ فإذا هاجت في نفسه نار الكبر ؛ أدركها التواضع من نصرة الله تعالى ؛ وإذا هاجت نار الحسد في نفسه ؛ أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل ؛ وإذا هاجت في نفسه نار الحرص ؛ أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل" .. وقال عروة بن الورد :: "التواضع أحد مصايد الشرف ؛ وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع" .. اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ .
ج1/24(التواضع) .. اعلم أن الكبر من المهلكات ؛ ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه ؛ وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ .. "اعْلَمْ أَنَّ التَّكَبُّرَ يَظْهَرُ فِي شَمَائِلِ الرَّجُلِ , كَصَعَرٍ فِي وَجْهِهِ ؛ وَنَظَرِهِ شَزْرًا ؛ وَإِطْرَاقِهِ رَأْسَهُ ؛ وَجُلُوسِهِ مُتَرَبِّعًا ؛ أَوْ مُتَّكِئًا ؛ وَفِي أَقْوَالِهِ ؛ حَتَّى فِي صَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ ؛ وَصِيغَتِهِ فِي الْإِيرَادِ ؛ وَيَظْهَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَتَبَخْتُرِهِ ؛ وَقِيَامِهِ وجلوسه وحركاته وسكناته ؛ وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته ؛ في أحواله وأقواله وأعماله .. فَمِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ مَنْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَبَّرُ فِي بَعْضٍ وَيَتَوَاضَعُ فِي بَعْضٍ .. فَمِنْهَا التَّكَبُّرُ بِأَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ أو بين يديه" .. فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته .. ومن أحوال رَسُولِ اللَّهِ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" حَتَّى إنه كان يأكل على الأرض ويقول :: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد" .. اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك , يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته
":وصلى الله عليه وسلم"
ج1/25(التواضع) .. بَيَانُ الطَّرِيقِ فِي مُعَالَجَةِ الْكِبْرِ وَاكْتِسَابِ التَّوَاضُعِ له .. اعلم أن الكبر من المهلكات ؛ ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ ؛ وَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي ؛ بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له :: وفي معالجته مقامان أحدهما :: استئصال أصله من سنخه , وقلع شَجَرَتِهِ مِنْ مَغْرِسِهَا فِي الْقَلْبِ .. الثَّانِي :: دَفْعُ العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره .. المقام الأول في استئصال أصله ؛ وعلاجه عِلْمِيٌّ وَعَمَلِيٌّ ؛ وَلَا يَتِمُّ الشِّفَاءُ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا .. أَمَّا الْعِلْمِيُّ فَهُوَ :: أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَعْرِفَ رَبَّهُ تَعَالَى , وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ الْكِبْرِ , فَإِنَّهُ مَهْمَا عَرَفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل ؛ وأنه لا يليق به إلا التواضع .. وَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَلِيقُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ إِلَّا بِاللَّهِ .. قال تعالى "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)"
ج1/26(التواضع) .. لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ .. عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ :: قَالَ رَسُولُ اللهِ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ " صحيح على شرط الشيخان .. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، تَحِلُّ لَهُ الْجَنَّةُ أَنْ يَرِيحَ رِيحَهَا وَلَا يَرَاهَا ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَيْحَانَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ الْجَمَالَ وَأَشْتَهِيهِ، حَتَّى إِنِّي لَأُحِبُّهُ فِي عَلَاقَةِ سَوْطِي، وَفِي شِرَاكِ نَعْلِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ ذَاكَ الْكِبْرُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ، وَغَمَصَ النَّاسَ بِعَيْنَيْهِ "
ج1/27(التواضع) .. كيف نكتشف الكِبْرَ في النفسِ .. أوْلاً :: ظُهَورَ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ الآخَريِنَ ؛ فَثَقُلَ عَلَيْنا قَبُولُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ .. الثاني :: أَنْ نَجْتَمِعَ مَعَ الْأَقْرَانِ وَالْأَمْثَالِ فِي الْمَحَافِلِ ؛ وَلَمْ نُقَدِّمَهُمْ عَلَى أنَفْسِنا ؛ ولم نَمْشِيَ خَلْفَهُمْ ؛ ولم يكن لَهُمْ صَدَارةَ المجلسِ ونحن دُونَه :: ثالثاً :: أَنْ يَثْقُلْ مِنْ دَعْوَةَ الْفَقِيرِ ؛ فَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهَا لَيْسَ إِلَّا لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ .. رابعاً :: أَنْ لَاْ يَحْمِلَ حَاجَةَ نَفْسِهِ وَحَاجَةَ أَهْلِهِ وَرُفَقَائِهِ مِنَ السُّوقِ إِلَى الْبَيْتِ ؛ فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُهُ ذَلِكَ فهو كبر .. خامسا :: وَمن ذَلِك الْعَمَل التَّوَاضُع للْمُسلمين؛ ولين الْجنَاح؛ وَاحْتِمَال الْأَذَى ؛ وَالصَّبْر عَلَيْهِم ؛ وَإِسْقَاط الْمنزلَة عِنْدهم ؛ وطلبها عِنْد خالقهم جلّ جَلَاله .. فَمَنْ يَتَقَدَّمْ عَلَى أَمْثَالِهِ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ ؛ وَمَنْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُمْ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ :: أَيْ وَضَعَ شَيْئًا مِنْ قَدْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ.. وَقَدْ أَهْمَلَ النَّاسُ طِبَّ الْقُلُوبِ وَاشْتَغَلُوا بِطِبِّ الْأَجْسَادِ مَعَ أَنَّ الْأَجْسَادَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ لَا مَحَالَةَ وَالْقُلُوبُ لَا تُدْرِكُ السَّعَادَةَ إِلَّا بِسَلَامَتِهَا إِذْ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أَتَى الله بقلب سليم} ..
ج1/28(التواضع) .. يَا بني مَا يتم عقل امْرِئ حَتَّى يكون فِيهِ عشرُ خِصَال ؛ الْكبر مِنْهُ مَأْمُون ؛ والرشد فِيهِ مأمول.. قَالَ الْقرشِي :: وَأَخْبرنِي إِدْرِيس عَن جده وهب بن مُنَبّه ؛ أَن لُقْمَان قَالَ لِابْنِهِ :: يَا بني :: مَا يتم عقل امْرِئ ؛ حَتَّى يكون فِيهِ عشر خِصَال ؛ الْكبر مِنْهُ مَأْمُون ؛ والرشد فِيهِ مأمول ؛ يُصِيب من الدُّنْيَا الْقُوت ؛ وَفضل مَاله مبذول ؛ التَّوَاضُع أحب إِلَيْهِ من الشّرف ؛ والذل أحب إِلَيْهِ من الْعِزّ ؛ لَا يسأم من طلب الْفِقْه طول دهره؛ وَلَا يتبرم من طلب الْحَوَائِج من قبله ؛ يستكثر قَلِيل الْمَعْرُوف من غَيره ؛ ويستقل كثير الْمَعْرُوف من نَفسه ؛ والخصلة الْعَاشِرَة الَّتِي بهَا مجده ؛ وَأَعْلَى ذكره أَن يرى جَمِيع أهل الدُّنْيَا خيرا مِنْهُ ؛ وَأَنه شرهم ؛ وَإِن رأى خيرا مِنْهُ سره ذَلِك ؛ وَتمنى أَن يلْحق بِهِ ؛ وَأَن رأى شرا مِنْهُ قَالَ :: لَعَلَّ هَذَا ينجو وأَنا أهْلك؛ فهنالك حِينها اسْتكْمل الْعقل .. قَالَ الْقرشِي :: أَن لُقْمَان قَالَ لِابْنِهِ غَايَة الشّرف والسؤدد حسن الْعقل ؛ وَمن حسن عقله ؛ غطى ذَلِك جَمِيع ذنُوبه ؛ واصلح ذَلِك مساويه ؛ ورضى عَنهُ مَوْلَاهُ .
ج1/29(التواضع) .. باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين .. قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} ، وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} وقال تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ، وقال تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عنكم جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .. قَالَ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" :: «إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أحَدٌ عَلَى أحَدٍ». رواه مسلم.. وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زادَ اللهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ». رواه مسلم.
ج1/30(التواضع) .. أحاديث مسندة ؛ تحكي عظمة التواضع والشرف .. وعن أَبي رِفَاعَةَ تَميم بن أُسَيْدٍ "رضي الله عنه" قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" وَهُوَ يخطب، فقلت: يَا رسول الله، رَجُلٌ غَريبٌ جَاءَ يَسْألُ عن دِينهِ لا يَدْرِي مَا دِينُهُ؟ فَأقْبَلَ عَليَّ رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" وتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسيٍّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأتَمَّ آخِرَهَا. رواه مسلم.. وعن "رضي الله عنه" :: أن رسول "صلى الله عليه وسلم" كَانَ إِذَا أكَلَ طَعَامًا ، لَعِقَ أصَابِعَهُ الثَّلاَثَ. قَالَ :: وقال :: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِط عنها الأَذى، وليَأكُلْها وَلاَ يَدَعْها لِلشَّيْطان» وأمرَ أن تُسلَتَ القَصْعَةُ .. قَالَ :: «فإنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَة». رواه مسلم. وعن أَبي هريرة "رضي الله عنه" عن النبيِّ"صلى الله عليه وسلم" قَالَ :: «مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ» قَالَ أصْحَابُهُ: وَأنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ». وعنه، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُراعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إِلَيَّ ذراعٌ أَوْ كُراعٌ لَقَبِلْتُ». رواه البخاري.
ج1/31(التواضع) .. باب تحريم الكبر والإعجاب .. قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .. وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحا} .. وقال تَعَالَى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .. ومعنى «تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ»: أيْ تُمِيلُهُ وتُعرِضُ بِهِ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ .. وَ «المَرَحُ»: التَّبَخْتُرُ. وقال تَعَالَى: {إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ} .. وعن عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه" عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قَالَ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّة مِنْ كِبْرٍ!» فَقَالَ رَجُلٌ :: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، ونَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ».. وعن حارثة بن وهْبٍ "رضي الله عنه" قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «ألا أُخْبِرُكُمْ بأهْلِ النَّار: كلُّ عُتُلٍ جَوّاظٍ مُسْتَكْبرٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
ج1/32(التواضع) .. مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ , أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ ؛ وَآنَسَهُ بِلَا مُؤْنِسٍ ، وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ .. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ "رَحِمَهُ اللَّهُ" مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ , أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ ؛ وَآنَسَهُ بِلَا مُؤْنِسٍ ، وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ .. قَالَ النَّبِيُّ "صلى الله عليه وسلم" «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .. وَعَنْه "صلى الله عليه وسلم" قَالَ: «ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك؛ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَاعْمَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك ؛ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك ؛ تَكُنْ أَوْرَعَ النَّاسِ» .. وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ :: خَيْرُ الْغِنَى الْقَنَاعَةُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ .. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ :: إنَّمَا الْفَقْرُ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَــــــــــــــــــزَّ وَجَلَّ:
مَا شِقْوَةُ الْمَــــرْءِ بِالْإِقْتَارِ مَقْتَرَةً
وَلَا سَعَـــــــــادَتُهُ يَوْمًــــا بِإِيسَارِ
إنَّ الشَّــقِيَّ الَّذِي فِي النَّارِ مَنْزِلُهُ
وَالْفَوْزُ فَوْزُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّارِ
ج1/33(التواضع) .. كَانَ يُقَالُ:: الشُّــكْرُ زِينَةُ الْغِنَى؛ وَالْعَـــفَافُ زِينَـــةُ الْفَقْرِ.. وَقَالُوا :: حَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَفِي الْغِنَى الْعَطْفُ وَالشُّكْرُ، وَفِي الْفَقْرِ الْعَفَافُ وَالصَّبْرُ , وَكَانَ يُقَالُ :: الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى .. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ الْمَدِينِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ "صلى الله عليه وسلم" عِنْدَنَا بِقُبَاءَ ؛ وَكَانَ صَائِمًا ؛ فَأَتَيْنَاهُ عِنْدَ إِفْطَارِهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ وَجَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ ؛ فَلَمَّا رَفَعَهُ فَذَاقَهُ ؛ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْعَسَلِ قَالَ :: «مَا هَذَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ، فَوَضَعَهُ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا أُحَرِّمُهُ، وَمَنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ، وَمَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ» .. «عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاضُعِ ؛ فَإِنَّ التَّوَاضُعَ فِي الْقَلْبِ ؛ وَلَا يُؤْذِيَنَّ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا .. فَلَرُبَّ مُتَضَعِّفٍ فِي أَطْمَارٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» .
ج1/34(التواضع) .. الإسلام يصنع معجزة التواضع .. حَدَّثَ شَيْخٌ مِنْ هَمْدَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " بَعَثَنِي قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِخَيْلٍ أَهْدَوْهَا لِذِي الْكَلَاعِ ؛ فَأَقَمْتُ بِبَابِهِ سَنَةً لَا أَصِلُ إِلَيْهِ ؛ ثُمَّ أَشْرَفَ إِشْرَافَةً عَلَى النَّاسِ مِنْ غُرْفَةٍ لَهُ ؛ فَخَرُّوا لَهُ سُجُودًا ، ثُمَّ جَلَسَ فَلَقِيتُهُ بِالْخَيْلِ فَقَبِلَهَا، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بِحِمْصَ ؛ وَقَدْ أَسْلَمَ ؛ يَحْمِلُ بِالدِّرْهَمِ اللَّحْمَ فَيَبْتَدِرُهُ قَوْمُهُ وَمَوَالِيهِ فَيَأْخُذُونَهُ مِنْهُ فَيَأْبَى تَوَاضُعًا .. وَقَالَ ::::::::
أُفٍ لِذِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَتْ كَذَا
أَنَا مِنْهَا كُــــــــلَّ يَوْمٍ فِي أَذَى
وَلَقَدْ كُنْـــــتُ إِذَا مَا قِيلَ مَنْ
أَنْعَمُ النَّاسِ مَـعَاشًا؟ قِيلَ: ذَا
ثُمَّ بُدِّلْـــــــــــتُ بِعَيْشٍ شِقْوَةً
حَبَّذَا هَـــــــــــذَا شَقَاءً حَبَّذَا
عَنْ كَعْبٍ قَالَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ مِنِ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا فَشَكَرَهَا لِلَّهِ، وَتَوَاضَعَ بِهَا لِلَّهِ ؛ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْعَهَا فِي الدُّنْيَا ؛ وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً فِي الْآخِرَةِ، وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ مِنِ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ؛ فَلَمْ يَشْكُرْهَا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَوَاضَعْ بِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ إِلَّا مَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْعَهَا فِي الدُّنْيَا ؛ وَفَتَحَ لَهُ طَبَقًا مِنَ النَّارِ ؛ يُعَذِّبُهُ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ»
ج1/35(التواضع) .. الجلوس مع المساكين هذا تواضع نبي الله سليمان "عليه السلام" والذي دان له ملك الأرض ؛ من إنسٍ ؛ وجانٍ ؛ وحيوان ؛ وقد سُخّرت له الريح تحمله وملكه حيث يشاء ؛ ملكٌ لم ينبغي لأحدٌ من قبلهِ ولا بعده .. قال الله تعالى (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)" .. كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ إِذَا أَصْبَحَ ؛ تَصَفَّحَ وُجُوهَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأَشْرَافِ ؛ حَتَّى يَجِيءَ إِلَى الْمَسَاكِينِ فَيَقْعُدَ مَعَهُمْ ؛ وَيَقُولَ: يَا رَبِّ مِسْكِينٌ مَعَ مَسَاكِينَ " .. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: "جَرَّبْنَا الْعَيْشَ لَيِّنَهُ وَشَدِيدَهُ، فَوَجَدْنَا يَكْفِي مِنْهُ أَدْنَاهُ" .. عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أُوتِينَا مَا أُوتِيَ النَّاسُ، وَمَا لَمْ يُؤْتَوْا، وَعَلِمْنَا مَا عَلِمَ النَّاسُ، وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: الْحِلْمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ "
ج1/36(التواضع) .. أغنياء وماتوا فقراء .. حَدَّثَنَا سَهْمُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ :: حَدَّثُونِي أَنَّ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ ؛ كَانَ يَلْبَسُ الْكِسْوَةَ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ ؛ وَيُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ ؛ وَمَعَهُ الصُّرَرُ فِيهَا الدَّرَاهِمُ ؛ فَيَدُسُّهَا إِلَى ذَا وَإِلَى ذَا , قَالَ: وَكَانَ مُوسِرًا.. فَمَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا ؛ فَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: "إِنَّ بَكْرًا عَاشَ عَيْشَ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَاتَ مَوْتَ الْفُقَرَاءِ" قَالَ رَسُولُ "صلى الله عليه وسلم" :: " خَيَّرَنِي رَبِّي بَيْنَ أَمْرَيْنِ: عَبْدًا رَسُولًا أَوْ مَلَكًا نَبِيًّا، فَلَمْ أَدْرِ أَيُّهُمَا أَخْتَارُ، وَكَانَ صَفِيِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَقَالَ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ، فَقُلْتُ: عَبْدًا رَسُولًا " .. حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «كَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَرَاكَ الْأَغْنِيَاءُ فِي الثِّيَابِ الدُّونِ، فَكَذَلِكَ فَاكْرَهْ أَنْ يَرَاكَ الْفُقَرَاءُ فِي الثِّيَابِ الْمُرْتَفِعَةِ» .. مَرَّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مَسَاكِينَ وَقَدْ بَسَطُوا كِسَاءً وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ كِسَرٌ فَقَالُوا: هَلُمَّ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَحَوَّلَ وَرِكَهُ وَقَرَأَ {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} ؛ فَأَكَلَ مَعَهُمْ ثُمَّ قَالَ: " قَدْ أَجَبْتُكُمْ فَأَجِيبُونِي ؛ فَقَالَ لِلرَّبَابِ :: يَعْنِي امْرَأَتَهُ: أَخْرِجِي مَا كُنْتِ تَدَّخِرِينَ "
ج1/37(التواضع) .. البراءة من الكبر .. عَنِ النَّبِيِّ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَ :: «بَرَاءَةٌ مِنَ الْكِبْرِ أَنْ تُجَالِسَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ» .. عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ قَالَ :: «مَنْ وَضَعَ وَجْهَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدًا ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ» .. قَالَ رَسُولُ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ» .. قَالَ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْكِبْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا الثِّيَابُ يَلْبَسُهَا ؛ وَالدَّابَّةُ يَرْكَبُهَا ؛ وَالطَّعَامُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ أَصْحَابَهُ؟ قَالَ: " لَا" وَلَكِنِ الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ الْمُؤْمِنَ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِخِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَلَيْسَ بِمُتَكَبِّرٍ: اعْتِقَالُ الشَّاةِ، وَلُبْسُ الصُّوفِ، وَرُكُوبُ الْحِمَارِ، وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُمْ مَعَ عِيَالِهِ " .. عَنْ قَتَادَةَ، {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قَالَ: «هُوَ الْإِعْرَاضُ أَنْ يُكَلِّمَكَ الرَّجُلُ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ»
ج1/38(التواضع) .. عقاب الكبر في الدنيا والآخرة .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَرًّا فِي مِثْلِ صُوَرِ الرِّجَالِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، ثُمَّ يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ» .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ الْجَبَّارُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ؛ لِهَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .. وقيل "«مَا دَخَلَ قَلْبَ امْرِئٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ قَطُّ إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ بِقَدْرِ مَا دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ» .. قَالَ الْحَسَنُ: «السُّجُودُ يَذْهَبُ بِالْكِبْرِ، وَالتَّوْحِيدُ يَذْهَبُ بِالرِّيَاءِ» .. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، أَنَّ سَلْمَانَ سُئِلَ عَنِ السَّيِّئَةِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، قَالَ: «الْكِبْرُ» .. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ عِنْدَ الصَّفَا رَجُلًا رَاكِبًا بَغْلَةً وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِلْمَانٌ يُعَنِّفُونَ النَّاسَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِبَغْدَادَ حَافِيًا حَاسِرًا طَوِيلَ الشَّعْرِ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ: تَرَفَّعْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَوَضَعَنِي اللَّهُ حَيْثُ يَرْتَفِعُ النَّاسُ.
ج1/39(التواضع) .. من يخدم أصحابه ؛ ويفني عُمْرَهُ لأمتهِ .. أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْفُرَيْعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَنَا أُرِيدُ، أَنْ أَخْدُمَهُ، فَكَانَ يَخْدُمُنِي أَكْثَرَ " .. من أبرز أخلاق العلماء تواضعهم، فإذا رأيت فيهم مغروراً متكبراً،؛ فثق بأن عنده من الجهل بقدر ما عنده من الكبر والغرور .. من أبرز ثمرات العلم: التصاون واحترام النفس، فمن وجدته يفعل ما لا يليق، ويهين نفسه لأهل الجاه والنفوذ، فثق بأنه أرض بور لا تثمر ولا تزهر .. ومن كتاب هكذا علمتني الحياة ؛ نقتطف هذه الزهرات ؛ كيف تعيش مع الناس .؟"كن في الحياة كعابر سبيل ؛ ويترك وراءه أثراً جميلاً ، وعش مع الناس كمحتاج لهم يتواضع ، وغنيٌ محسن ، وموظفٍ في مكتبه مخلص ، وكطبيب بهم رحيم ، ولا تكن كذئب يأكل من لحومهم ، وكثعلب يمكر بعقولهم ، وكلص ينتظر غفلتهم ؛ فإن حياتك من حياتهم ، وبقاءك ببقائهم ، ودوام ذكرك بعد موتك من ثنائهم " .. التواضع يرفع رأس الرجل عزا وكرامة ، والتكبر يخفضه ذلا ومهانة ؛ والتواضع رزقٌ لا تُحسد عليه .. والتواضع مطلب من الله ثوابه ؛ والذل مطلبٌ دونيٌّ مهما عظمت قيمته .
ج1/40(التواضع) .. وَصْفُ المؤمنِ التَّقِي المتواضع لِلإِمَامِ عَلَيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْه .. الْمُتَّقُونَ هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ؛ مَنْطِقُهُمْ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمْ الاقْتِصَادُ ؛ وَمَشْيُهُمْ التَّوَاضُعُ ؛ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ؛ وَوَقَّفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ ، نَزَلَتْ أَنْفُسهم مِنْهُمْ في البَلاءِ كَمَا نَزَلَتْ في الرَّخَاءِ ؛ وَلَوْلا الأَجَلُ الذي كَتَبَ اللهُ لَهُمْ ؛ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ ؛ شَوْقًا إِلى الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ.. عَظُمَ الْخَالِقَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أَعْيُنِهِمْ ؛ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنْعِمُونَ ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون ؛ قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورَهُمْ مَأْمُونَةٌ ؛ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ ؛ صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةٌ طَوِيلَةٌ ؛ وَتِجَارَةٌ مُرِيحَةٌ يَسّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ.. مُجَالَسةُ العَارِفِ الزَّاهِدِ تَدْعُو مِنْ سَتٍّ إلى سِتْ :: مِنَ الشَّكِ إلى اليَقِينْ.. وَمِنْ الرِّيَاءِ إِلى الإِخْلاصِ.. وَمِنْ الغُفْلَةِ إِلى الذِّكْرِ.. وَمِنْ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيَا إِلى الرَّغْبَةِ في الآخِرَةِ.. وَمِنْ الكِبْرِ إِلى التَّوَاضُعِ.. أَرَادَتْهُمْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا؛ وَأَسَرتْهُمْ فَفَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا؛ أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِين لأَجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً؛ يُحْزِنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَائِهِمْ.
ج1/41(التواضع) .. وَصْفُ المؤمنِ التَّقِي المتواضع لِلإِمَامِ عَلَيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْه .. فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِم أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً في دِينٍ ؛ وَحَزْمًا في لِيْنٍ ؛ وَإِيمَانًا فِي يَقِينٍ ؛ وَحَرْصًا في عِلْمٍ ، وَعِلْمًا في حِلْمٍ ؛ وَقَصْدًا في غِنَى ؛ وَخُشُوعًا في عِبَادَةٍ ؛ وَتَحَمُّلاً في فَاقَةٍ ؛ وَصَبْرًا في شِدَّةٍ ؛ وَطَلبًا في حَلالٍ ؛ وَنَشَاطًا في هُدَى ؛ وَتَحَرُّجًا عن طَمَعٍ .. وَفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْ الفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنْ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ ، لَمْ يُعْطِهَا سُؤلَهَا فِيمَا تُحِبُّ.. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ، وَزَهَادَتُه فِيمَا لا يَبْقَى، يَمْزِجُ الْحِلْم بالعِلْم، وَالقَولَ بالعَمَلَ، تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعًا قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُه، مَنْزُورًا أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزًا دِينُهُ، مَيَّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُومًا غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ ؛ وَالشَّرُ مِنْهُ مَأْمُونٌ .. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمُّه صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحَكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هَوْ الذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ .. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ وَنَزَاهَةً، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُه بِكبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ .. وَيْحَكَ :: إِنْ لِكِلِّ أَجَلٍ وَقْتًا لا يَعْدُوهُ ؛ وَسَبَبًا لا يَتَجَاوَزُه.


ج1/43(التواضع) .. التواضع في الدعوةِ إلى الله .. والتواضع يقابله الكبر .. الأول نعمةٌ بلا حسد ؛ والثاني مرض بلا رحمة .. من رُزق التواضع فقد أصاب عين الحكمة ؛ فالتواضع إذلال النفس الشامخة من أجل الله ورضاه ؛ وواضعا نفسه دون الناس ؛ لا يريدُ منهم جزاءً ولا شكورا؛ ولم يُرِدْ أيُ شيءٍ من مطالب الدنيا؛ وإذلالٍ النفس الشامخة؛ في التواضع للناس بدعوتهم إلى الله , وتعريفهم بربهم العظيم ؛ ودعوتهم إلى بيته؛ فأصعبُ ذُلٍ للنفس ؛ عرضها على الناس ؛ وَطَرْقُ بيوتهم والتجول في أسواقهم؛ من أجل أن يعرف الناس طريقاً لفوزهم وفلاحيهمُ في الدنيا والآخرة.. هذه خُطُواتٍ من أجل الله ؛ خطواتٍ تسير بها على اتْباع هدي الأنبياء ؛ وسننهم في الدعوة إلى الله .. دون تَكَبْرٍ وعجْرفةٍ على خلق الله .. ندعو الناس لله ؛ لعل الله سبحانه يرحمنا في الدنيا والآخرة ؛ فلربما مُبلغٍ أوعى منا ؛ يحمل هم الدعوة بنورها ويمشي به في الناس .. نتجولُ على الناس وهم خيرا منا ؛ نُذكّر أنفسنا أولا ونُذكّر الناس ؛ بالطريق الوحيد للنجاة ؛ بامتثال أمر الله سبحانه ؛ وعلى طريقةِ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؛ والطرق الأخرى فيها الخسارة والهلاك .
ج1/44(التواضع) .. حديثٌ للقلب منفرا من الكِبْر .. يقول تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ؛ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} عبادُ اللهِ :: المتكبرون شرار الخلق أذلاء ؛ يُحشرون يوم القيامة كالذرِ تحتَ أقدامِ خلقِ الله؛ فكل جعظري جواظ مستكبر إلى الهلاك مسلكه، المتكبر:: بأنفه يشمخ إذا تكلم، ويجافي مرفقيه لعنقه مُسَعِّر، يقارب خطاه إذا مشى ، متطاولاً على أقرانه مترفعاً، ينظر الناس شزراً ؛ فَعَجْزِهُ عن التواضع ؛ دفعه إلى نار الحقد لتأكل قلبه .. رأس أخلاق المتقين التواضع ، فالحْقْدُ أقرب له من الغفران ؛ غاضبا مزاجه، فاقدا كَظْمَ غيظهِ ، ولم يسلم من رذيلة الازدراء ؛ للآخرين بجهالته يَحْتَقرْ ؛ ففي مستنقع الغيبة أفرغ سُمَّ حقده ؛ وتَنقّصَ الآخرين ؛ متمرغا في مزابل المتكبرين ؛ وأرغمه الكبر إلى منحدر العظمة ؛ مضطرا ليحفظ عزه المهزوز الذليل ، وما من خُلقٍ محمود إلا جانبه وخاصمه ؛ فَسُموم سهامه في كلامه وملابسه ؛مغلفا نقصه في أثاث منزله وجدرانه ؛ ويحيط نفسه بالأذلاء بما يملك .. فلا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ومما جاء في وصية لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
ج1/45(التواضع) .. حديثٌ للقلب منفرا من الكِبْر .. اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آفَةَ الْكِبْرِ عَظِيمَةٌ؛ وَفِيهِ يَهْلِكُ الْخَوَّاصُ؛ وَقَلَّمَا يَنْفَكُ عَنْهُ الْعُبَّاد وَالزُّهَادُ وَالْعُلَمَاءُ؛ وَكَيْفَ لا تعظم آفُتُهُ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ "صلى الله عليه وسلم" أَنَّهُ لا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ؛ الْكِبْرُ حِجَابٌ دُونَ الْجَنَّة ؛ يحول بين الْعَبْد وبين أَخْلاق الْمُؤْمِنِينَ؛ والمُتَكَبْر لا يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ فلا يَقْدِرُ على التَّوَاضُعِ ؛ وتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغَضَبِ ؛ ولنْ يستطعْ كَظْمِ الْغَيْظِ وَقُبُولِ النُّصْحِ ؛ وَلا يَسْلِمْ مِنْ الازْدِرَاءِ وَالاحْتِقَارِ وَاغْتِيَابِهِ لِلنَّاسِ ؛ فَمَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ إِلا وَهُوَ مُتَّصِف به ومُضْطَرٌ إِلَيْهِ؛ وَقَدْ شَرَحَ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الْكِبْرَ فقَالَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ يَدْعُوا إِلَى الْكِبْرِ فتَتَوَلَّدُ الآفَاتُ مَعَ الْخَلْقِ ؛ فَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ :: فَإِنَّ الْعُجْبَ بِالطَّاعَاتِ نَتِيجَةِ اسْتِعْظَامُهَا ؛ فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا ؛ وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَنِعْمَتَه عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لَهَا ؛ وَيَعْمَى عَنْ الْمُفْسِدْ مِنْ آفَاتِهَا .. نَظَرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وَالٍ ظَالِم استقبلهَ النَّاسُ بِالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ :: انْظُرُوا إِلَى مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ سُرُور الدُّنْيَا وَخِزْي الآخِرَة.
ج1/45(التواضع) .. مواقف للتواضع تَسِرُّ خاطر السامعين .. كَانَ عُمر بن عَبْد الْعَزِيز يجعل كُلّ يوم من ماله دِرْهَمًا فِي طعام الْمُسْلِمِين الفقراء ويأكل معهم.. وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب "رَضِيَ اللهُ عَنْهُ" ألا وإنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ كَافِلِ الْيَتِيم؛ إِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوف.. ودخل بَعْضهمْ على سلمان الفارسي "رَضِيَ اللهُ عَنْهُ" وَهُوَ والٍ على المدائن فوجَدَهُ يَعْمَل الخُوصَ بِيَدِه يُسَوِّي مِنْهُ قُفَفًا لِيَبِيعَهَا وَيَتَقَوَّتُ بِهَا.. فَقَالَ لَهُ: تَعْمَلُ هَذَا وَأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِن وَيَجْرِي عَلَيْكَ الرِّزْقَ.. فَقَالَ سلمان "رَضِيَ اللهُ عَنْهُ" إِنِّي اشْتَرِي بدرهم خوصًا (سَعَفُ النخل) فأعمله قُفَفًا فأبيعه بربحٍ بثلاث .. أُنْفِقُ دِرْهَمًا عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي؛ وَأَتَصَدَّق بِدِرهمٍ وَأُعِيدُ دِرْهَمًا فِيهِ وَاللهِ إنِّي أحِبُّ أَنْ آكل مِنْ عَمَلِ يَدِي.. ورآه بَعْض النَّاس فِي الطَرِيق وظنه من جملة الحمَّالين الْفُقَراء فقَالَ: احْمِلْ لي هَذَا فَحَمَلَ لَهُ أَمْتِعَتَهُ وَمَشِيَ مَعَهُ فِي السُّوق، وَكُلَّما صَادَفَ إِنْسَانًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير.. فَاسْتَغْرَبَ وَقَالَ لِسَلْمَانَ: مَن الأَمِير؟ قَالَ: أَنَا. فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ وَيَطْلُبه السَّمَاحَ وَيَقُولُ: أَعْطِني مَتَاعِي جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.. قَالَ: لا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ أَنَا خَادِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَى إِلا أَنْ يُوصِلَ الأَمْتِعَةِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهَا.
ج1/46(التواضع) ..
كَمْ جَاهِلٍ مُتَوَاضِعٍ ... سَــــــــــــــتَرَ التَّوَاضُعُ جَهْلَهْ
وَمُمَيِّزٍ فِي عِلْمِهِ ... هَــــــــــــــــــدَمَ التَّكَبُّرُ فَضْلَهْ
فَدَعْ التَّكَبُّرَ مَـــا حَيِـ ... ـيتَ وَلا تُصَاحِبْ أَهْلَهُ
فَالْكِبْرُ عَيْــــــــــــــــــبٌ لِلْفَتَى ... أَبَدًا يُقَبِّحُ فِعْلَهْ
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عَيَّاضٍ: التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِي قَبِلْتَهُ مِنْهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ.. وَلِلتَّوَاضُعِ فَوَائِدُ وَمَنَافِعُ تَعُودُ عَلَى الأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ؛ فَإِنَّ الْمُتَوَاضِعَ قَرِيبٌ إلى النَّاسِ مُحَبَّبٌ إلى نُفُوسِهِمْ؛ ضِدُّ الْمُتَكَبِّرِ؛ فَإِنَّهُ بَغِيضٌ إِلَيْهِمْ؛ ثَقِيلٌ عِنْدَهُمْ, وَكُلَّمَا دَنا الْمُتَوَاضِعُ مِنَ النَّاسِ؛ ارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ؛ وَعَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ وَثَقُلَ مِيزَانُهُ عِنْدَهُمْ؛ وَاسْتَفَادَ مِنْهُمْ وَأَفَادَهُمْ.. وَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَظِيمًا ذَا مَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْهُ أَكْبَرُ أَثَرًا؛ وَأَكْثَرُ فَائِدَةٌ لأَنَّ الأَشْيَاءَ تَعْظُمُ بِنِسْبَةِ مَنْ تَسْتَنَدُ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَــــدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صغارها
وَتَصْغَرُ فِي عَيْنِ الْعَـظِيمِ الْعَظَائِمُ ... ?
وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَالِمًا بِالتَّوَاضُعِ يَزْدَادُ عَلْمًا لأَنَّهُ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ أَخْذِ الْفَائِدَةِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَلِهَذَا قِيلَ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوّدُوا؛ وَلا يَأْبَى الْعَالِمُ الْمُتَوَاضِعُ أَنْ يَنْقُلَ الْحَقَّ عَنْ أَيِّ مَخْلُوقٍ.
ج1/47(التواضع) .. قِيلَ لِبزْرِ جَمْهَر: مَا النِّعْمَةُ الَّتِي لا يُحْسَدُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ. قِيلَ لَهُ: فَمَا الْبَلاءُ الَّذِي لا يُرْحَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ؟ قَالَ الْعُجْبُ. وقال: التَّوَاضُعُ مَعَ السَّخَافَةِ وَالْبُخْلُ أَحْمَدُ مِن الْكِبْرِ مَع السَّخَاءِ وَالآدَابِ؛ فَأَعْظِمْ بِحَسَنَةٍ عَفَتْ عَنْ سَيِّئَتَيْنِ وَأَقْبَحَ بِعَيْبٍ أَفْسَدَ مِنْ صَاحِبِهِ حَسَنَتَيْن وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
وَأَحْسَنُ مَقْرُونَيْنِ فِي عَيْنِ نَاظِرٍ
جَلالَةُ قَدْرٍ فِي خُمُــــــولِ تَوَاضُعِ
آخر: ... لَيْسَ الْخُمُـــــولُ بِعَارٍ
عَلَى امْرِئٍ ذِي جَلالِ
فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ تَخْفَى ... وَتِلْكَ خَيْرُ اللَّيَالِ
وقال آخر:
إِنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ خِصَالِ الْمُتَّقِي
وَبِهِ التَّقِيُّ إلى الْمَـــــعَالي يَرْتَقِي
وَمِنَ الْعَجَائِبِ عُجْــبُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ
فِي حَالِهِ أَهُوَ السَّــــــــعِيدُ أَمْ الشَّقِي
أَمْ كَيْفَ يُخْتَمُ عُمْـــــــــــرُه أَوْ
يَوْمَ النَّوَى مُتَسفل أَوْ مُرْتَقِي
وَالْكِبْرِيَاءِ لِرَبِّنَا صِـــــــــفَةٌ لَهُ
مَخْــــــصُوصَةٌ فَتَجَنَّبَهَا وَاتَّقِي
وقال مُصْعَبُ بن الزُّبَيْر: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمَ مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُه.
ج1/47(التواضع) .. وقال بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ بَرِئ مِنْ ثَلاث نَالَ ثَلاثًا؛ مِنْ بَرِئَ مِنَ السَّرَفْ نَالَ الْعِز؛ وَمَنْ بَرِئَ مِنَ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَف؛ وَمَنْ بَرئَ مِنَ الْكِبْرِ نَالَ كَرَامَةَ التَّوَاضُع.. أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ؛ فَهُوَ كَالْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا تَفُوتَهُ الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةِ؛ لأَنَّهُ تَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَقِّ حَيْثُ وَجَدَه؛ وَلِهَذَا قِيلَ ضَاعَ الْعِلْمُ بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْكِبْرُ؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُتَوَاضِعُ تِلْمِيذًا يَجِدُ لُطْفًا وَعَطْفًا مِنَ الأسْتَاذ؛ فَلا يَبْخَلُ عَلَيْهِ بِمَجْهُودِهِ؛ وَلا يَشُحُّ عَلَيْهِ بِفَائِدَةٍ؛ لأَنَّ التَّوَاضُعَ يَسْتَلْزِمُ الأَدَب.. وَأَمَّا أَحْسَنُ الأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ مَعَ الْمُعَلِّم الَّذِي يَبْذِلُ جُهْدَهُ فَي سَبِيل تَثْقِيفِهِ وَتَهْذِيبه وَتَرْبِيَتِهِ تَرْبِيَةً صَالِحَةً؛ وَأَنَّهُ بِتَوَاضُعَهِ وَحُسْن سِيرَتِهِ مَعَ مُعَلِّمِهِ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاء؛ وَأَنَّهُ يُدْرِكُ قِيمَةَ الْمَعْرُوفِ؛ وَأَنَّهُ مِمَّنْ يُجَازِي عَلَى الإِحْسَانِ بِالإِحْسَانِ.. أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَتَكَبَّرُ وَيَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ وَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى سُوءِ الأَدَب وَاحْتِقَارِ الْمُعَلِّم فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ غَبِيٌّ جَاهِلٌ جلفٌ فَدِم لا يَعْرِفُ لِلْعِلْمِ قِيمَتَه وَلا يُرِيدُ أَنْ يَخْرَجَ مِنْ جَهْلِهِ وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَعْرُوف فَإِنَّكَ تَرَى الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى الْمُعَلِّمِينَ يَعْمَهُونَ فِي حُمْقِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَلا يَخْرُجُونَ عَن السَّخَفِ فَضْلاً عَمَّا
 

abo allil

كاتب جيد
رد: التواضع ؛ بحث متكامل من التراث الإسلامي ..

شكرا بارك الله فيك
 

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
رد: التواضع ؛ بحث متكامل من التراث الإسلامي ..

أبو الليل جزاكم الله تعالى خيرا
 
التعديل الأخير:

مواضيع مماثلة

أعلى