التجارة والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
في ظلال التجارية والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.

في ظلال التجارية والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.
مقدمة: من هم الأعداء: الذين يعتدون على شرع الله برفضهم شريعة الله؛ ويشرِّعون من عند أنفسهم.. الاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية اللّه - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير اللّه بما يشرِّعون لأنفسهم وللناس شرائع هي من خصائص الله "جل في عُلاه" وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي الجهاد ما استطاع المسلمون إليه سبيلا !.. والإسلام عقيدة وعبادة وشريعة حياة متمثلة بالدين الكامل الذي يجب عرضه على الناس؛ والناس أحرارٌ في العقيدة والعبادة، ولصون حرية الجميع مؤمنين وغيرهم؛ لا بد أن تحكم شريعة الله الجميع؛ صونا لكرامتهم وحقوقهم في الحياة؛ وإقصاء وارهاب وملاحقة كل شريعة ومشرع يجعل من الناس أسيادا وعبيد.
مقدمات ونتائج: إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه؛ ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق!.. بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده؛ ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله؛ ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً !.. وما دام في "الأرض" كفر؛ وما دام في "الأرض" باطل؛ وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض؛ والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء..
***
عنوان الدرس:
في ظلال التجارية والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.
1-من هم الذين عقدوا الصفقة؟
2-مبايعة ومفاصلة؛ إمَّا إلى الجنان؛ وإمَّا إلى الجحيم!
3-عِظَمْ ذنب التخلف عن غزوة العسرى.
4-شروط تخفيف تكاليف النفير العام والرباط في سبيل الله.
5- قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه.
6-بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار اتجاه التكاليف الربانية للمؤمنين.
7-الجهاد والنفير والمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة.
8-في ظلال هذه النصوص قال الأستاذ سيد قطب.
9-إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن
من آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض وما عليه.
10-المجاهد في سبيل الله: أقوى من قيود الأرض وأنه أثقل من وزنها.



سورة التوبة
{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه . فقد باع المؤمن للّه في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم , هو الجنة: وهو ثمن لا تعدله السلعة ، ولكنه فضل اللّه ومَنَّه: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم}.


1-من هم الذين عقدوا الصفقة؟
والذين باعوا هذه البيعة , وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة , ذات صفات مميزة . . منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع اللّه في الشعور والشعائر ; ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين اللّه في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود اللّه في أنفسهم وفي سواه {التائبون , العابدون , الحامدون , السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه . وبشر المؤمنين}.


2-مبايعة ومفاصلة؛ إمَّا إلى الجنان؛ وإمَّا إلى الجحيم!
والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة , وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولى قربى - فقد اختلفت الوجهتان , واختلف المصيران , فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة , والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم . ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم . وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة , ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه , فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه . إن إبراهيم لأواه حليم}. .
وولاء المؤمن يجب أن يتمحض للّه الذي عقد معه تلك الصفقة ; وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة - وهذا بيان من اللّه للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة - وحسب المؤمنين ولاية اللّه لهم ونصرته ; فهم بها في غنى عن كل ما عداه , وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه: {وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون , إن اللّه بكل شيء عليم , إن اللّه له ملك السماوات والأرض , يحيي ويميت , وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير}.


3-عِظَمْ ذنب التخلف عن غزوة العسرى.
ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة ; فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل اللّه أمراً عظيماً , تجاوز اللّه عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف ; فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً: {لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة , من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ; ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت , وضاقت عليهم أنفسهم , وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ; ثم تاب عليهم ليتوبوا , إن اللّه هو التواب الرحيم} .. ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ; أولئك القريبون من رسول اللّه "محمد" "صلى الله عليه وسلم" الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية , ومركز الانطلاق الإسلامي ; واستنكار لما وقع منهم من تخلف ; مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه , ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار , ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح , إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين , ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة , ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم , ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون}. .


4-شروط تخفيف تكاليف النفير العام والرباط في سبيل الله.
[["اتساع رقعة الدولة الإسلامية: وتقسيم الناس إلى ثلاث فئات؛1- "النافرين والمرابطون في سبيل الله"؛2- "التعليم والتفقه في الدين" 3- "المتعلمون والإداريون الضاربون في الأرض لسد حاجات الجميع من ضرورات الحياة وادارتها" "من خارج النص"]]
***
ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام . وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد , وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين ; ويبقى البعض للقيام بحاجيات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض , ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم , لعلهم يحذرون !}


5- قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه.
وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية - بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه - وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . . وقتال أهل الكتاب كافة كذلك {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار , وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن اللّه مع المتقين}. .


6-بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار اتجاه التكاليف الربانية للمؤمنين.
وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي . . يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران: موقف المنافقين؛ وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموحيات الإيمان القلبية , وبالتكاليف والواجبات العملية . ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات , ولا تعظهم النذر والابتلاءات: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيماناً ; فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون . أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ? وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد? ثم انصرفوا . صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}.. ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة سنة رسول اللّه محمد"صلى الله عليه وسلم" وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته . مع توجيهه "صلى الله عليه وسلم" إلى الاعتماد على اللّه وحده , والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم , عزيز عليه ما عنتم , حريص عليكم , بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو , عليه توكلت , وهو رب العرش العظيم}.


7-الجهاد والنفير والمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة.
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد ; وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة ; وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض - وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال - لتقرير حدود اللّه والمحافظة عليها ; أي لتقرير حاكمية اللّه للعباد , ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية !.. ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شرَّاح آيات اللّه وشريعة اللّه في هذا الزمان ; وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود الدفاع الإقليمي عن "أرض الإسلام" بينما كلمات اللّه - سبحانه - تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون "أرض الإسلام" هذه من الكفار; دون ذكر لأنهم معتدون ! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية اللّه - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير اللّه . وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد !
وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير , لنواجه نصوصه بالتفصيل .
الدرس الأول:111 - 112 تكاليف البيعة مع الله وصفات المبايعين
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن , ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه , وبشر المؤمنين). .


8-في ظلال هذه النصوص قال الأستاذ سيد قطب.
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات , في أثناء حفظي للقرآن , وفي أثناء تلاوته , وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان . . هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان ! إنه نص رهيب ! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه , وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفَّى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ; فلم يعد لهم منها شيء . . لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إنها صفقة مشتراة , لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء , وفق ما يفرض ووفق ما يحدد , وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم , لا يتلفت ولا يتخير , ولا يناقش ولا يجادل , ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . والثمن هو: الجنة . . والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال . . والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد:
{إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون}.. من بايع على هذا؛ من أمضى عقد الصفقة؛ من ارتضى الثمن ووفَّى؛ فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . . ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا , وإلا فهو واهب الأنفس والأموال , وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. . شر البهيمة.. {إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون}.. كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.. وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه؛ ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون}.. عونك اللهم ! فإن العقد رهيب . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها , قاعدون , لا يجاهدون لتقرير ألوهية اللّه في الأرض , وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال! ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين" على عهد رسول اللّه" محمد "صلى الله عليه وسلم" فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم , أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة , لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة "رضي اللّه عنه" في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره :قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه , لرسول اللّه محمد "صلى الله عليه وسلم"[ يعني ليلة العقبة ] -:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال: "الجنة " " . قالوا:ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل.. هكذا.. " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ".. لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ; انتهى أمرها , وأمضي عقدها , ولم يعد إلى مرد من سبيل:"لا نقيل ولا نستقيل" فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ; والجنة: ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه: {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن}.. {ومن أوفى بعهده من اللّه ?}.
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ?


9-إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن
من آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض وما عليه.
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: {ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}.. {ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً}.. إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه؛ ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق!.. بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده؛ ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله؛ ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً !.. وما دام في "الأرض" كفر؛ وما دام في "الأرض" باطل؛ وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض؛ والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء.. وإلا فليس بالإيمان: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ "..{فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم}.. استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه , وأخذ الجنة عوضاً وثمناً , كما وعد اللّه.. وما الذي فات ? ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ واللّه ما فاته شيء؛ فالنفس إلى موت؛ والمال إلى فوت؛ سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه! والجنة كسب؛ كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك !


10-المجاهد في سبيل الله: أقوى من قيود الأرض وأنه أثقل من وزنها.
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه؛ ينتصر "إذا انتصر" لإعلاء كلمته؛ وتقرير دينه , وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه؛ ويستشهد "إذا استشهد" في سبيله؛ ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة؛ ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض , والإيمان ينتصر فيه على الألم , والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.. إن هذا وحده كسب؛ كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم؛ وانتصار العقيدة فيه على الحياة.. فإذا أضيفت إلى ذلك كله.. الجنة.. فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم}..
***
الخاتمة: ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية: {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن}.. فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور.. وهو لا يدع مجالا للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري "لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه" ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية؛ ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي؛ يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية اللّه وحده للعباد، وتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد.. كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد.. ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في "الأرض" لتحقيق إعلانه العام بتحرير "الإنسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها "في حتمية لا فكاك منها" أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري , لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !
***
عنوان الدرس:
في ظلال التجارية والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.
1-من هم الذين عقدوا الصفقة؟
2-مبايعة ومفاصلة؛ إمَّا إلى الجنان؛ وإمَّا إلى الجحيم!
3-عِظَمْ ذنب التخلف عن غزوة العسرى.
4-شروط تخفيف تكاليف النفير العام والرباط في سبيل الله.
5- قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه.
6-بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار اتجاه التكاليف الربانية للمؤمنين.
7-الجهاد والنفير والمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة.
8-في ظلال هذه النصوص قال الأستاذ سيد قطب.
9-إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن
من آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض وما عليه.
10-المجاهد في سبيل الله: أقوى من قيود الأرض وأنه أثقل من وزنها.
 
التعديل الأخير:

didiomar

كاتب جديد
رد: التجارة والصفقة الرابحة مع الله.. سيد قطب.

جزاك الله خير
 
أعلى