المتنبي

المُتَنَبّــــي


915 ــ 965 م


المهندس جورج فارس رباحية


هو أبو الطيّب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي ويُكَنّى بأبي الطيّب وُلِـــدَ ســـنة ( 303 هـ ــ 915 م ) بالعراق في مدينة الكوفة بمحلة الكندة التي نُسِبَ إليها وليس هو من قبيلة كِنْدَة بل هو مـــــــــن قبيلة جُعْفي. عــــاش المتنبي في أسرة فقيرة ، أبوه سقّاء ماء بالكوفة ، بدأ ينظم الشــعر وهو بعمر 9 سنوات بقي في الكوفة حتى بلغ من العمر 14 عاماً ثم خرج إلى بادية الجزيرة ( السماوة ) وعـــاش فيها سنتين ثم عـــــــاد إلى الكوفة ثم ذهــب إلى بغداد وعمره 17 عاماً ومن بغداد تنقّل بين القبائل في جــوف البوادي وتنقّل ببين حمص واللاذقية وأنطاكــــية وطرابلس وبعلبك ثم انتقل مع والده إلى الشام ونشـأ متــمرّداً على واقعـــــه وغلت في عروقه دمــــــــاء الشباب ، فأصيب بداء الغرور وجنون العظمة واعتقد أن الــــدنيا خادم مطيع لطمـوحاته وهو القائل :

وكلّ ما خلق الله وما لم يخلق ***** مُحْتَقَرٌ في همتي كشعرة في مفرقي

هناك روايتان لتلقيبه بالمتنبي ، الأولى أنه ادّعى النبوة في بادية السماوة (1) بداية شبابه ، وهي الأكثـــــــر شيوعاً ، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الأخشيدية بمصــر فأسرَه وحبســـه طويلاً ، وتفرّق أتباعه ، وكان قد قرأ على البوادي كلاماً ذكر فيه أنه قرآن أُنزِلَ عليه ومما قاــــل : ( والنجم الســيّار ، والفلك الدوّار ، والليل والنهار ، إن الكافر لفي أخطار ، امضِ على سنّتك ، واقف إثْرَ مَن كان قبلك من المُرسلين ، فإنّ الله قامعٌ بك زيغ مَن ألحدَ في الدّين وضلّ عن السبيل) ويُقال أن ســـــبب سجنه لكونه شيعياً . والرواية الثانية هي روايـــــــة أبو العلاء المعري حيث يقول في رســـــــالة الغفران عن سبب تلقيبه بالمتنبي : " وحدثت أن المتنبي كـــــان إذا سُئِلَ عن حقيقة هــــذا اللقب كان يقول إنـــه من النَبــــْوة أي المـــرتفع من الأرض وأنه قد طمح في شـــــيء من المُلْك ، ولإبداعه في الشــــــعر لُقِّبَ " بنبي الشعر " .
مكث بالسجن قرابة السنتين وأطلــــــق سراحه سنة 952 م فقصــد أمير حلب ســـيف الدولة الحمداني (2) وكان لســــيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلّمون بحضرته ، فوقع بين المتنبي وبين ابن خـالويه النحوي كــــــــلام فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه ، فشجّه وخرج دمه يســــيل على ثيـــــابه ، فغادر حــلب سنة 961 م قاصداً كافور الأخشيدي ملك مصر فمدحــــه كما مدح أنوجور بن الأخشيد . وكان يقف أمام كافور وفي رجليْه خُفّان وفي وسطه سيف ومعه حاجبين من مماليكه متمنــــــطقان بالسيوف . ولما لم يرضه هذا التصرّف ، لتعاليه في شعره وسموّه بنفسه ودعوته بالنبوّة . فهجــــــــاه المتنبي وتركه ليلة عيد الفطر سنة 965 م ، فأرسل كافور خلفه جنوده إلى عدة جهات ليقبضوا عليه فلم يفلحـــوا . وقال في هذه المناسـبة ( عيد الفطر ) :

عيد بأية حال عــــــدت يا عــــيد ***** بما مضى أم بأمر فيك تجـــــديد


أما الأحبـــــــة فالبيــداء دونـــهمُ ***** فليت دونـــــك بـــيداً دونـــها بيدُ


اني نزلتُ بكـــــــذّابين ضيفــــهمُ ***** عن القِرى وعن التِرحال محدودُ


جود الرجال من الأيدي وجودهمُ ***** من اللسان فلا كانوا ولا الجـــودُ


ما يقبض المونُ نفْساً من نفوسهمُ ***** إلاّ وفي يـــده من نتنـــها عـــودُ


أكلما اغتال عبدُ الســـــــوءِ سيّده ***** أو خانه فله في مصــــــر تمهيدُ


صار الخصيّ إمــــام الآبقين بها ***** فالحُرّ مُستَــــعبدٌ والعبــد معبودُ


لا تشتر العبد إلاّ والعصــــا معه ***** إن العبيـــــد لأنجــــاسٌ منـــاكيدُ

قصد المتنبي بلاد فارس ومدح عضد الدولة ( بن بويه الديلمي ) فكافأه ، ولما رجع من عنده قاصداً بغداد ثم إلى الكوفة في 8 شعبان سنة 350 هـ ـ 965 م هاجمـــــه ( فاتك بن أبي جهل الأسدي )(3) مع عــــــدد من أصحابه بنحو 30 وقيل 60 ، وكان مع المتنبي جماعـــة من أصحــــابه فقاتلوهم ، فقُتِلَ المتنبي وابنه محسـّد وغُلامه مُفْلِح بالقرب من النعمانية ، في موضع يُقال له الصافية وقيل حيال الصافية ، من الجانب الغربي من سواد بغـــــــداد عند دير العاقول بينهما مسافة 3 كم .
عاش المتنبي أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاد سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحــــــد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكّناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العرب . فيوصف بأنه نادرة زمانه وأعجوبة عصره وبقي شـــــعره إلى يومنا هذا مصــــدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء . هو شاعر حكيم واحد مفاخر الأدب العربي وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك ، شجاع طموح محب للمغامرات صاحب كبرياء ، في شعره اعتزاز للعروبة وتشاؤم وافتخار بنفسه ، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك إذ جاء بصياغة قوية محكمة .
إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعــــــــاني المبتكرة , وجد الطريق أمامه مُهَيّئاً لموهبته الشعرية لدى الأمراء والحكّام ، ترك المتنبي تراثاً عظيماً من الشــــــــعر القوي الواضح يمثّل عنواناً لسيرة حياته ، صوّرَ فيه الحياة في القرن الرابـــع الهجري ( العاشر الميلادي ) أجمــــل وأوضح تصوير ، له ديوان شرحه مجموعة من كبار الأدباء مثل : عثمان بن جني ( 942 ـ 1002 ) م وأبو
العلاء المعري ( 973 ـ 1057 ) م و أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ( توفي 1076 م ) و الشيخ إبراهيم اليازجي ( 1847 ـ 1906 ) م و العكبري . كما أن الكثير من الأدباء المعاصرين لم ينسوا المتنبي منهم :
ـــ طه حسين في كتابه : مع المتنبي
ـــ لويس ماسينيون ترجمة د. إبراهيم عوض في كتابه : المتنبي
ـــ د. عائض القرني في كتابه : إمبراطور الشعراء
ـــ ممدوح عدوان في كتابه : المتنبي في ضوء الدراما
ـــ طاهر محسن كاظم في كتابه : التركيب اللغوي لشعر المتنبي
مقتطفــــــات من أعمــــاله :
1 ـ من المعلوم أن المتنبي نظم الشعر وهو في التاسعة من عمره ، فأوّل ما قال :

أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ***** وفرق الهجر بين الجفنِ والوسنِ

2ـ قال المتنبي عن نفْسه :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ***** وأسمعتُ كلــــــماتي من به صممُ


الخيل والليل والبيداء تعـــرفني ***** والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

3 ـ قال في الغَزَل :

وعذلت أهل العشق حتى ذقته ***** فعجبتُ كيف يموت من لا يعشقُ


========


ما بالُع لاحظتُه فتضرّجتْ ***** وَجَناتُهُ وفؤادي المجروحُ


========


ورمى وما رَمَتا يداهُ فصابني ***** سهمٌ يُعَذَبُ والسهام تُريحُ


========


والهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمّا أراقِبُهُ ***** أنا الغريقُ فما خوفي منَ البَلّلِ


=========

4 ـ وقال في الجهل :

وفي الجهل قبل الموت موتُ لأهله ***** فأجســامهم قبل القبور قبورُ


وإن امرأً لم يحي بالعلــــــــم ميّتٌ ***** فليس له حتى النشور نشورُ

5 ـ قال في الحِكَمْ ، فكان من إبداعاته تحوّل بعض أبيت من شعره إلى حِكَم عربية متداولة على اللسان:

إذا رأيتَ نيوبَ اللّيْثِ بارزةً ***** فلا تظنّ أن الليثَ يبتسِمُ


=========


لا تحقِرَنَّ صغيراً في مخاصمةٍ ***** إن البعوضة تُدمي مُقلة الأسدِ


=========


وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقص ***** فهي الشهادة لي باني كاملُ


=========


إذا أنت أكرمتَ الكريمَ ملكته ***** وإن أنت أكرمتَ اللئيم تمرّدا


=========


لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ***** حتى يُراق على جوانبه الدمُ


6 ـ وقال في الإحسان :

وقَيَّدتُ نفسي في ذراك محبة ***** ومَن وجدَ الإحسانَ قيداً تقيّدا


========


إذا الجودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً مِنَ الأذى ***** فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقيا

7 ـ في الإقدامِ قال :

لولا المشَقّةُ ساد الناس كُلُّهُمُ ***** الجودُ يُفْقِرُ والإقْدامُ قَتَّالُ


8 ـ في المديحِ عند مدحه سيف الدولة الحمداني قال :

عَلى قَدْرِ أهــلِ العَزْمِ تأتي العزائمُ ***** وتأتي على قدر الكـــــــرامِ المَكارِمُ


وتعظمُ في عين الصغيرِ صغارُها ***** وتصغرُ في عين العظـــــيمِ العظائمُ


يُكلف سيف الـدولة الجيش هــــمّه ***** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارمُ

9 ـ وقال في صباه يهجو القاضي الذهبي :

لما نسبت فكنتَ ابناً لغير أبِ ***** ثمَّ اختبرت فلــم ترجع إلى أدبِ


سُمّيتَ بالذهبي اليوم تسـميةً ***** مُشْتَقّةً من ذهاب العقلِ لا الذهبِ

10 ـ ذكر العلاّمة ابن جنّي أن أبا الطيب لُقِّبَ بالمتنبي لأنه قال :

أنا في أمّةٍ تداركها الله ***** غريب كصالح في ثمودِ


ما مقامي بأرض نخلةٍ ***** كمقام المسيح بين اليهودِ

11 ـ كان المتنبي في كل شعره يؤمن بأن هناك أصحاب النسب الصريح وهم العرب الغرباء وأدعياء النسب
من الموالي والعجم والعبيد حيث قال :

وإنما القـــــوم بالمــــلوكِ وما ***** تصلح عرب ملوكها عجَـــمُ


لا أدب عنـــــدهم ولا حســب ***** ولا عهــــود لــــهم ولا نـــعمُ


بأي لفظ تقول الشعر زعــنفة ***** تجوز عنك لا عرب ولا عجمُ

12 ـ كل المصادر تؤكّد أن المتنبي لم يشرب الخمر ولم يزن ، وفي إحدى المرات دُعِيَ إلى الشراب فقال :

لا حبتي أن يملأوا ***** بالصافيات الأكـــوبا


وعليهم أن يــبذلوا ***** وعليّ أن لا أشـــربا


حتى تكون الباترا ***** ت المسمعات فأطربا

13 ـ القصيدة البائية التي قتلت المتنبي عندما هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني وجاء فيها كلاماً بذيـــــــئاً واحتوت القصيدة على أبشع الألفاظ مما جعل المتنبي ينكر إنشادها كما قال الواحدي أحد شُرّاح ديوان المتنبي
علمَ فاتك بالقصيدة (خال ضبّة ) فغضب عند سماعها وأراد الانتقام لأخته ابنها ضبّة فكان ما كــان . ونذكر من
هذه القصيدة عدة أبيات ونترك الباقي لما فيها من أبشع الألفاظ والعبارات البذيئة :

ما أنصف القوم ضبّة وأمّه الطرطبّة ***** فلا بمن مات فخرٌ ولا بمن عاش رغبة


وإنما قلت ما قلت رحمـــــة لا محبّة ***** وحيلة لـك حتى عـــــذرت لو كنت تيبة


وما عليك من القتل إنما هي ضـربة ***** وما عليك من الغــــدر إنما هو ســـــبّة


=====================

7/7/2013 المهندس جورج فارس رباحية
المفــــــــردات :
(1) ــ السماوة : هي البادية بين الكوفة والشام .
(2) ــ سيف الدولة الحمداني : هو علي بن عبد الله وُلِدَ في ديار بكر ـ ميافارقين ـ ســنة 915 م وتوفي
في حلب سنة 965 م . هو اكبر أمراء الحمدانيين حلب (سورية) انتزع حـــــلب من الأخشيديين
حارب البيزنطيين وانتصر على الإمبراطور فوقاس 953 م ، ازدهرت الآداب والعلوم في عهده
فنبغ في بلاطه المتنبي وأبو فراس الحمداني وأبو نصر الفارابي الفيلســـــوف الذي قدّم للحمداني
كتابه الأغاني . توفي على أثر فالج ، خلفه ابنه سعد الدولة .
(3) ــ فاتك بن أبي جهل الأسدي : هو خال ضبّة بن يزيد الأسدي العيني الذي هجاه المتنبي .

المصــــــــادر والمــــراجع :
ـــ أبو الطيّب المتنبي ج1 و ج2 : فؤاد أفرام البستاني سلسلة الروائع . بيروت 1930
ـــ تاريخ الأدب العربي : حنا الفاخوري
ـــ المنجد في اللغة والأعلام . بيروت 1973
ـــ شرح ديوان المتنبي : أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي . مكتبة مشكاة الإسلامية
ـــ مواقع على الإنترنت :
 

مواضيع مماثلة

أعلى