الكاتتب الكبير عبد الحمن منيف

السنابل

كاتب جديد
سنة على رحيل عبد الرحمن منيف:
أينَ هو التاريخ؟ لا أرى إلاّ ركاماً من الأكاذيب والافتراءات!

munif1.jpg



د. نـبـيـه القــاسم

صادف الرابع والعشرون من هذا الشهر مرور سنة على رحيل الكاتب عبد الرحمن منيف الذي وافته المنية يوم 24 كانون الثاني (يناير) 2004 في مدينة دمشق التي اختارها للإقامة في سنوات عمره الأخيرة، وكانت التي تحضن رفاته ولا تزال.
لقد قضى عبد الرحمن منيف العقود الثلاثة والنصف الأخيرة من حياته وهو يعمل لتحقيق حلمه في قيام عالم عربي يُحتَرَم فيه المواطن، وتُصان حقوقه، ويطمئن إلى سلامة وجوده. لقد آمن، بعد أن أدرك صعوبة تحقيق حلمه من خلال العمل الحزبي والسياسي أنّ الكتابة قد تكون الوسيلة الأنجع في التأثير على فكر وسلوك الإنسان، وتعمل على تفعيله للحركة والعمل وتحقيق المستحيل حيث قال على لسان أحد أبطاله: نخطىء كثيرا إذا تخلينا عن آخر الأسلحة التي نملكها، الكلمة، ولا بُدّ أن نحسن استعمالها، إذ ربّما تكون وسيلتنا الأخيرة، وقد تستطيع أن تفعل ما عجزت عنه الأسلحة الأخرى، ولذلك فانّ المهم أن تكتب، أن تقدم شهادة (1). واختار الفن الروائي لإيمانه كما قال: إنّ الرواية، في المرحلة الحالية، ربّما تكون إحدى الأدوات المهمة في تصوير المجتمع، والتعبير عن طموحاته، وحشد قواه، وزيادة وعيه، وأيضا في تلمّس النبضات الحقيقية في وجدان الشعب، وبالتالي اشتفاف المستقبل (2). ولأن الرواية كما يرى عبارة عن عمل تغييري وبالتالي هي جزء من عمل سياسي بمفهومه المتقدّم والحضاري (3). ولهذا عمل منذ روايته الأولي الأشجار واغتيال مرزوق على تضمين رواياته بأفكاره السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية التي آمن بها، وحمّلها للعديد من شخصيات رواياته.
وكان منيف قد شهد ووعي كغيره في الوطن العربي أنّ مساهمة الطبقة المثقفة والمتعلمة كانت حاسمة في تحرّر العالم العربي من الاستعمار الأجنبي، وكان يُفتَرض أن يُساهم هؤلاء في حكم البلاد وإدارة شؤونها بعد التحرر والاستقلال، لكن الذي حدث أن هذه البلاد العربية التي قسّموها إلى دول تحوّلت إلى دولة البداوة والسلطة الغاشمة، إمّا معي أو ضدّي، واستعملت كل أساليب القهر والظلم، وعملت على سحق المواطن وتهميش دوره. وكان من نتيجة صمت المواطن على أمل التغيير للأفضل، أن وجد المواطن نفسَه ضحيّة صمته يُعاني كل أنواع القهر والظلم في غياهب السجون. بينما الحاكم لا يرى إلاّ نفسه، ولا تاريخ إلاّ تاريخ انتصاراته الموهومة، ولا حقيقة موجودة إلاّ حقيقته. وويل لمن يعترض أو حتى يُشكك في ذلك. يقول منيف على لسان طالع العريفي: الجلاد لم يولد من الجدار، ولم يهبط من الفضاء، نحن الذين خلقناه، نعم نحن الذين فعلنا ذلك، وبإصرار أبله، تماما كما خلق الانسان القديم آلهته! خلقناه، في البداية، رغبة في النظام السهل، ثم تواطأنا معه لإخافة الصغار والغرباء والأعداء، إلى أن أصبحنا نتساءل عن مدى قدرته، ومدى الحاجة إليه، وعند ذاك بدأنا ننظر إليه بحذر ونصمت، ثم بدأنا نخاف منه ونعلن، إلى أن وصلنا إلى الامتثال والطاعة والرضا، وأخيرا التسليم! ومثل الإله ، بعد أن خُلق استقل وابتعد. ثم أخذ يَخلق لنفسه رموزه وشخوصه وطريقته في التعامل مع الآخرين، أصبح وحده الذي يمنح البركة، ووحده الذي ينزل العقاب. وكل مَن يتساءل أو يعترض فهو الآبق المارق الهرطوق، وهكذا توالت التقدمات له، ثم الأضاحي والنذور، ومنه تطلَب المغفرة ثم الرضا فالبركة، ومَن لا يمتثل أو مَن يختلف فلا بدّ أن يُقاطع، ثمّ يُرجَم، ثم يُحجر عليه (4).
ويحذر منيف من تصديق التاريخ الذي يكتبه الحكام ويلقنونه للأجيال الطالعة في الوطن العربي ويتساءل: أين هو التاريخ؟ أرى ركاما من الأكاذيب والافتراءات، ولا أرى شيئا غير ذلك! ليست هناك وقائع صحيحة بالمرّة. وأيّة واقعة ترونها الآن مكتوبة بخط أنيق، على صفحات مصقولة، يجب أن تفترضوا سلفا أنّها كاذبة! أو على أقل تعديل يجب أن تشكوا بصحتها. إبحثوا في عقول الذين ينزوون في المقاهي لا يكلمون أحدا، وإنما يُراقبون المواكب التي تمرّ، وترتسم على شفاههم ابتسامات حزينة، ابحثوا هناك لعلكم تجدون بداية لتاريخ حقيقي!. (5).
وكان من الطبيعي أن يجد المثقف العربي نفسه ومنذ البداية أنه يقف في مواجهة السلطة التي لا تقبل منه إلاّ الطاعة العمياء والتسبيح بحمد الحاكم، وإلاّ فمكانه السجن ومصيره الجنون أو الطرد أو الموت أنتَ بالأساس لست من موران، لم نجد لك قيدا، ولم نجد لك أصلا، ولا يُشرّفنا أن تبقى بيننا، ولذلك سوف تُسَفّر (6) وهذا الموقف جعل المثقف في الوطن العربي يجد نفسه خارج الإطار، مهمّشا مغربا عاجزا مشوّها أنا رجل مخصي.. مخصيّ حتى الثمالة.. العجز في دمي، البلاهة في دمي.. ولا أستحق شيئا (7) ولا يملك أيّ أمل للمستقبل لأنّ الخيبة تولد كل يوم، تنبثق مع شروق الشمس، ومع ارتفاعها تتمدد، بفعل الحرارة والرخاوة، وبفعل ذلك الاستسلام العاجز (8) حتى بات يؤمن أنّ العجز يسري في الدم، وأنّه سيأتي يوم لا ينسل رجال هذه الأمة (العربية) إلاّ الأقزام والمشوهين.. الذين لا يعرفون إلاّ أن يموتوا رخيصين (9). فالناس فقدوا القدرة حتى على البكاء.. إنهم يبكون بدموع تتساقط إلى الداخل.. إنهم يبكون كل الوقت.. حتى أثناء النوم (10).
الانسان العربي وخاصة المثقف فقد إيمانه بكل شيء ، حتى بالوطن الذي ناضل وقاتل من أجل تحريره. أصبح هذا الوطن يتمثل له سجنا رهيبا يريد الفرار منه. فالوطن كما يراه هو أن يجوع الانسان أن يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون (11) ويتساءل بألم: لماذا تزداد حالة الانسان بؤسا يوما بعد يوم في الأرض التي يسمّونها الوطن؟(12) لماذا يجوع الانسان في وطنه؟ ولماذا يجعلونه يكفر بكل شيء؟(13) حتى بات حلمه الوحيد أن يغادر هذا الوطن). قالوا إنّ الحرية في أرض أخرى أبعد من اليونان. يُمكن أن يعيش الانسان أيامه دون أن يوقظه عند الفجر صوت المخبرين وضربات أحذيتهم؟ (14) . وبألم يقول آخر أنّ الموت في الوطن سهل ومستمر مثلما هي القبل في باريس .
لقد حمّل منيف المواطن العربي، وخاصة المثقف، مسؤولية ما آلت إليه حالته المزرية في دولة البداوة والظلم كما ورد على لسان طالع العريفي قناعتي أننا نحن الذين خلقنا الجلادين، نحن الذين سمحنا باستمرار السجون، لقد فعلنا ذلك من خلال تساهلنا وتنازلنا عن حقوقنا، من خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهام والأصنام، ثم لما أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة ( 15) واتّهم المثقف بالهرب من مواجهة الواقع والبحث عن المكان الآمن والراحة والتخلي عن موقعه القيادي للجماهير في مواجهة الحاكم والعمل على أسقاطه حلمت كثيرا، حلمت طويلا أن آتي إلى باريس (16) أنا الآن أملك جسدي، أستطيع أن ألقيه في البحر، لا أحد له سلطان عليه مثلي، كانوا يستطيعون ذلك، فعلوا أشياء كثيرة، لكنهم الآن لا يستطيعون، أصبحت بعيدا (17). وبيّن أن الهرب من الوطن لن يوفّر الأمان للهارب لأنه سيظل مسكونا بهاجس الوطن بمقدار ما أحاول نسيان الماضي، والبدء من جديد، فإنّ الماضي يطاردني، يتلبسني، يضع يده في يدي، كعاشقين، ويجبرني على أن نرتحل معا كل يوم! أحاول أن أهرب منه، أن أضيّعه في أزقة الحي اللاتيني، لكن ما أكاد أخطو بضع خطوات، إلاّ واراه كامنا لي في واحد من المنعطفات! كأن يمدّ لي لسانه بسخرية وتشفّ كأيّ صبيّ قليل التهذيب، ونترافق من جديد (18).
وعليه فالحل الأمثل الذي يراه هو العودة للوطن ومواجهة الحاكم والعمل على محاربته وإسقاطه وبناء الوطن الجديد. ويعود رجب إسماعيل وكله إصرار على التحدي ها أنذا أعود.. لم يدفعنا أحد للعودة، عدت لأني لم أستطع أن أبقي (19). لن أتركهم حتى يقتلوا حامد. يكفي أنهم قتلوا هادي ورضوان، يكفي أنهم جلدوا المئات والآلاف.. يجب أن أفعل شيئا .. لن أتركهم. (20). وبإصرار يقول زكي نداوي في تلك الليلة قررت. ولم أنس القرار في اليوم التالي. وقبل أن تغيب شمس اليوم الأول كنت قد ضعت في زحام البشر، وبدأت أكتشف الحزن في الوجوه.. وتأكدت أنّ جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر، وأنهم ينتظرون.. ينتظرون ليفعلوا شيئا. (21). ولكن منيف يؤكد علي لسان أحد أبطاله: ستبقى السجون وسوف تتسع إذا ظلّ الناس في بلادنا يفخرون بصبرهم واحتمالهم، وأن مَن يعاني أكثر في الدنيا لا بدّ أن يُجازي في الآخرة، وإذا استمروا أيضا ينتظرون طيور السماء لكي تنقذهم! (22) .
هكذا آمن منيف طوال سنوات عمره أن الحرية تؤخذ ولا تعطي ، وأن الانسان وحده القادر على تحقيق حريته وانهاء الظلم والظّلاّم.
ويمرّ العام الأول على غياب عبد الرحمن منيف والعالم العربي لا يزال على ما تركه عليه من حالة مزرية على كل المستويات .. رحم الله منيف فقد حمل حلمَه الكبير .. ولكنه كان صريع هذا الحلم

.
الهوامش

ـ عبد الرحمن منيف. الكاتب والمنفى. بيروت. دار الفكر الجديد، الطبعة الأولى 1992
ـ عبد الرحمن منيف. الأشجار واغتيال مرزوق. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة السادسة 1991
ـ عبد الرحمن منيف. حين تركنا الجسر. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الخامسة 1990
ـ عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثامنة 1991
ـ عبد الرحمن منيف. الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1992.
1 ـ الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 298
2 ـ الكاتب والمنفى. ص 255
3 ـ الكاتب والمنفى. ص 266
4 ـ الأن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص283 ـ 284
5 ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص303 ـ 304
6 ـ الأن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 296
7 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
8 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
9 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
10 ـ حين تركنا الجسر. ص 83
11ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 31
سنة على رحيل عبد الرحمن منيف:
أينَ هو التاريخ؟ لا أرى إلاّ ركاماً من الأكاذيب والافتراءات!

munif1.jpg



د. نـبـيـه القــاسم

صادف الرابع والعشرون من هذا الشهر مرور سنة على رحيل الكاتب عبد الرحمن منيف الذي وافته المنية يوم 24 كانون الثاني (يناير) 2004 في مدينة دمشق التي اختارها للإقامة في سنوات عمره الأخيرة، وكانت التي تحضن رفاته ولا تزال.
لقد قضى عبد الرحمن منيف العقود الثلاثة والنصف الأخيرة من حياته وهو يعمل لتحقيق حلمه في قيام عالم عربي يُحتَرَم فيه المواطن، وتُصان حقوقه، ويطمئن إلى سلامة وجوده. لقد آمن، بعد أن أدرك صعوبة تحقيق حلمه من خلال العمل الحزبي والسياسي أنّ الكتابة قد تكون الوسيلة الأنجع في التأثير على فكر وسلوك الإنسان، وتعمل على تفعيله للحركة والعمل وتحقيق المستحيل حيث قال على لسان أحد أبطاله: نخطىء كثيرا إذا تخلينا عن آخر الأسلحة التي نملكها، الكلمة، ولا بُدّ أن نحسن استعمالها، إذ ربّما تكون وسيلتنا الأخيرة، وقد تستطيع أن تفعل ما عجزت عنه الأسلحة الأخرى، ولذلك فانّ المهم أن تكتب، أن تقدم شهادة (1). واختار الفن الروائي لإيمانه كما قال: إنّ الرواية، في المرحلة الحالية، ربّما تكون إحدى الأدوات المهمة في تصوير المجتمع، والتعبير عن طموحاته، وحشد قواه، وزيادة وعيه، وأيضا في تلمّس النبضات الحقيقية في وجدان الشعب، وبالتالي اشتفاف المستقبل (2). ولأن الرواية كما يرى عبارة عن عمل تغييري وبالتالي هي جزء من عمل سياسي بمفهومه المتقدّم والحضاري (3). ولهذا عمل منذ روايته الأولي الأشجار واغتيال مرزوق على تضمين رواياته بأفكاره السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية التي آمن بها، وحمّلها للعديد من شخصيات رواياته.
وكان منيف قد شهد ووعي كغيره في الوطن العربي أنّ مساهمة الطبقة المثقفة والمتعلمة كانت حاسمة في تحرّر العالم العربي من الاستعمار الأجنبي، وكان يُفتَرض أن يُساهم هؤلاء في حكم البلاد وإدارة شؤونها بعد التحرر والاستقلال، لكن الذي حدث أن هذه البلاد العربية التي قسّموها إلى دول تحوّلت إلى دولة البداوة والسلطة الغاشمة، إمّا معي أو ضدّي، واستعملت كل أساليب القهر والظلم، وعملت على سحق المواطن وتهميش دوره. وكان من نتيجة صمت المواطن على أمل التغيير للأفضل، أن وجد المواطن نفسَه ضحيّة صمته يُعاني كل أنواع القهر والظلم في غياهب السجون. بينما الحاكم لا يرى إلاّ نفسه، ولا تاريخ إلاّ تاريخ انتصاراته الموهومة، ولا حقيقة موجودة إلاّ حقيقته. وويل لمن يعترض أو حتى يُشكك في ذلك. يقول منيف على لسان طالع العريفي: الجلاد لم يولد من الجدار، ولم يهبط من الفضاء، نحن الذين خلقناه، نعم نحن الذين فعلنا ذلك، وبإصرار أبله، تماما كما خلق الانسان القديم آلهته! خلقناه، في البداية، رغبة في النظام السهل، ثم تواطأنا معه لإخافة الصغار والغرباء والأعداء، إلى أن أصبحنا نتساءل عن مدى قدرته، ومدى الحاجة إليه، وعند ذاك بدأنا ننظر إليه بحذر ونصمت، ثم بدأنا نخاف منه ونعلن، إلى أن وصلنا إلى الامتثال والطاعة والرضا، وأخيرا التسليم! ومثل الإله ، بعد أن خُلق استقل وابتعد. ثم أخذ يَخلق لنفسه رموزه وشخوصه وطريقته في التعامل مع الآخرين، أصبح وحده الذي يمنح البركة، ووحده الذي ينزل العقاب. وكل مَن يتساءل أو يعترض فهو الآبق المارق الهرطوق، وهكذا توالت التقدمات له، ثم الأضاحي والنذور، ومنه تطلَب المغفرة ثم الرضا فالبركة، ومَن لا يمتثل أو مَن يختلف فلا بدّ أن يُقاطع، ثمّ يُرجَم، ثم يُحجر عليه (4).
ويحذر منيف من تصديق التاريخ الذي يكتبه الحكام ويلقنونه للأجيال الطالعة في الوطن العربي ويتساءل: أين هو التاريخ؟ أرى ركاما من الأكاذيب والافتراءات، ولا أرى شيئا غير ذلك! ليست هناك وقائع صحيحة بالمرّة. وأيّة واقعة ترونها الآن مكتوبة بخط أنيق، على صفحات مصقولة، يجب أن تفترضوا سلفا أنّها كاذبة! أو على أقل تعديل يجب أن تشكوا بصحتها. إبحثوا في عقول الذين ينزوون في المقاهي لا يكلمون أحدا، وإنما يُراقبون المواكب التي تمرّ، وترتسم على شفاههم ابتسامات حزينة، ابحثوا هناك لعلكم تجدون بداية لتاريخ حقيقي!. (5).
وكان من الطبيعي أن يجد المثقف العربي نفسه ومنذ البداية أنه يقف في مواجهة السلطة التي لا تقبل منه إلاّ الطاعة العمياء والتسبيح بحمد الحاكم، وإلاّ فمكانه السجن ومصيره الجنون أو الطرد أو الموت أنتَ بالأساس لست من موران، لم نجد لك قيدا، ولم نجد لك أصلا، ولا يُشرّفنا أن تبقى بيننا، ولذلك سوف تُسَفّر (6) وهذا الموقف جعل المثقف في الوطن العربي يجد نفسه خارج الإطار، مهمّشا مغربا عاجزا مشوّها أنا رجل مخصي.. مخصيّ حتى الثمالة.. العجز في دمي، البلاهة في دمي.. ولا أستحق شيئا (7) ولا يملك أيّ أمل للمستقبل لأنّ الخيبة تولد كل يوم، تنبثق مع شروق الشمس، ومع ارتفاعها تتمدد، بفعل الحرارة والرخاوة، وبفعل ذلك الاستسلام العاجز (8) حتى بات يؤمن أنّ العجز يسري في الدم، وأنّه سيأتي يوم لا ينسل رجال هذه الأمة (العربية) إلاّ الأقزام والمشوهين.. الذين لا يعرفون إلاّ أن يموتوا رخيصين (9). فالناس فقدوا القدرة حتى على البكاء.. إنهم يبكون بدموع تتساقط إلى الداخل.. إنهم يبكون كل الوقت.. حتى أثناء النوم (10).
الانسان العربي وخاصة المثقف فقد إيمانه بكل شيء ، حتى بالوطن الذي ناضل وقاتل من أجل تحريره. أصبح هذا الوطن يتمثل له سجنا رهيبا يريد الفرار منه. فالوطن كما يراه هو أن يجوع الانسان أن يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون (11) ويتساءل بألم: لماذا تزداد حالة الانسان بؤسا يوما بعد يوم في الأرض التي يسمّونها الوطن؟(12) لماذا يجوع الانسان في وطنه؟ ولماذا يجعلونه يكفر بكل شيء؟(13) حتى بات حلمه الوحيد أن يغادر هذا الوطن). قالوا إنّ الحرية في أرض أخرى أبعد من اليونان. يُمكن أن يعيش الانسان أيامه دون أن يوقظه عند الفجر صوت المخبرين وضربات أحذيتهم؟ (14) . وبألم يقول آخر أنّ الموت في الوطن سهل ومستمر مثلما هي القبل في باريس .
لقد حمّل منيف المواطن العربي، وخاصة المثقف، مسؤولية ما آلت إليه حالته المزرية في دولة البداوة والظلم كما ورد على لسان طالع العريفي قناعتي أننا نحن الذين خلقنا الجلادين، نحن الذين سمحنا باستمرار السجون، لقد فعلنا ذلك من خلال تساهلنا وتنازلنا عن حقوقنا، من خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهام والأصنام، ثم لما أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة ( 15) واتّهم المثقف بالهرب من مواجهة الواقع والبحث عن المكان الآمن والراحة والتخلي عن موقعه القيادي للجماهير في مواجهة الحاكم والعمل على أسقاطه حلمت كثيرا، حلمت طويلا أن آتي إلى باريس (16) أنا الآن أملك جسدي، أستطيع أن ألقيه في البحر، لا أحد له سلطان عليه مثلي، كانوا يستطيعون ذلك، فعلوا أشياء كثيرة، لكنهم الآن لا يستطيعون، أصبحت بعيدا (17). وبيّن أن الهرب من الوطن لن يوفّر الأمان للهارب لأنه سيظل مسكونا بهاجس الوطن بمقدار ما أحاول نسيان الماضي، والبدء من جديد، فإنّ الماضي يطاردني، يتلبسني، يضع يده في يدي، كعاشقين، ويجبرني على أن نرتحل معا كل يوم! أحاول أن أهرب منه، أن أضيّعه في أزقة الحي اللاتيني، لكن ما أكاد أخطو بضع خطوات، إلاّ واراه كامنا لي في واحد من المنعطفات! كأن يمدّ لي لسانه بسخرية وتشفّ كأيّ صبيّ قليل التهذيب، ونترافق من جديد (18).
وعليه فالحل الأمثل الذي يراه هو العودة للوطن ومواجهة الحاكم والعمل على محاربته وإسقاطه وبناء الوطن الجديد. ويعود رجب إسماعيل وكله إصرار على التحدي ها أنذا أعود.. لم يدفعنا أحد للعودة، عدت لأني لم أستطع أن أبقي (19). لن أتركهم حتى يقتلوا حامد. يكفي أنهم قتلوا هادي ورضوان، يكفي أنهم جلدوا المئات والآلاف.. يجب أن أفعل شيئا .. لن أتركهم. (20). وبإصرار يقول زكي نداوي في تلك الليلة قررت. ولم أنس القرار في اليوم التالي. وقبل أن تغيب شمس اليوم الأول كنت قد ضعت في زحام البشر، وبدأت أكتشف الحزن في الوجوه.. وتأكدت أنّ جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر، وأنهم ينتظرون.. ينتظرون ليفعلوا شيئا. (21). ولكن منيف يؤكد علي لسان أحد أبطاله: ستبقى السجون وسوف تتسع إذا ظلّ الناس في بلادنا يفخرون بصبرهم واحتمالهم، وأن مَن يعاني أكثر في الدنيا لا بدّ أن يُجازي في الآخرة، وإذا استمروا أيضا ينتظرون طيور السماء لكي تنقذهم! (22) .
هكذا آمن منيف طوال سنوات عمره أن الحرية تؤخذ ولا تعطي ، وأن الانسان وحده القادر على تحقيق حريته وانهاء الظلم والظّلاّم.
ويمرّ العام الأول على غياب عبد الرحمن منيف والعالم العربي لا يزال على ما تركه عليه من حالة مزرية على كل المستويات .. رحم الله منيف فقد حمل حلمَه الكبير .. ولكنه كان صريع هذا الحلم .

الهوامش

ـ عبد الرحمن منيف. الكاتب والمنفى. بيروت. دار الفكر الجديد، الطبعة الأولى 1992
ـ عبد الرحمن منيف. الأشجار واغتيال مرزوق. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة السادسة 1991
ـ عبد الرحمن منيف. حين تركنا الجسر. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الخامسة 1990
ـ عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثامنة 1991
ـ عبد الرحمن منيف. الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1992.
1 ـ الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 298
2 ـ الكاتب والمنفى. ص 255
3 ـ الكاتب والمنفى. ص 266
4 ـ الأن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص283 ـ 284
5 ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص303 ـ 304
6 ـ الأن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 296
7 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
8 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
9 ـ حين تركنا الجسر. ص 17
10 ـ حين تركنا الجسر. ص 83
11ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 31
12ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 337
13ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 341
14ـ شرق المتوسط. ص 78
15ـ الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 13
16ـ الآن ..هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 302
17ـ شرق المتوسط. ص 79
18ـ الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 303 ـ 304
19ـ شرق المتوسط. ص 167
20ـ شرق المتوسط. ص 165
21ـ حين تركنا الجسر. ص 213
22ـ الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 313
12ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 337
13ـ الأشجار واغتيال مرزوق. ص 341
14ـ شرق المتوسط. ص 78
15ـ الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 13
16ـ الآن ..هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 302
17ـ شرق المتوسط. ص 79
18ـ الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 303 ـ 304
19ـ شرق المتوسط. ص 167
20ـ شرق المتوسط. ص 165
21ـ حين تركنا الجسر. ص 213
22ـ الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ص 313
 

رحيق الزهور

الإدارة
رد: الكاتتب الكبير عبد الحمن منيف

[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]
معلومات قيمة
واكثر من رائعة
مشكور ع طرحك
بنتظار كل جديدك
دمت بخير
[/align]
[/cell][/table1][/align]
 

SONDA

كاتب جيد جدا
رد: الكاتتب الكبير عبد الحمن منيف

معلومات جميلة
تقديم جميل جدا..

لكن اسمح لي
عبد الرحمان منيف مش فلسطيني
ارجو نقل الموضوع لقسم مشاهير العرب أحسن
 

غسان عبد الرحمن

كاتب جديد
رد: الكاتتب الكبير عبد الحمن منيف

(انه رجل قدم حياته لانه لم يستطع ان يرد الاهانه التي لحقت به)هكذا هم ابطال منيف اناس بسطاء ولكنهم غير عاديين يجعلونك تنظر الى زاوية جديده من حياتك وتتامل بها ترى هل سيتحقق حلم منيف بعالم خالي من السجون والمطالبين بشي اسمه الحرية ام ان قصة رجب ورفاقه ستبقى ازلية ويبقى العذاب وصرخات المضلوين مكتومه في الظلام؟اشكرك اخي لاختيارك هذا الموضوع
 
أعلى