هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

صمت الرمال

كاتب جديد
هذا هو السؤال الذي طرحه الكثيرون وحاولوا العثور على إجابة له. ولم تكن الإجابة سهلة لأن علاقة مي وجبران علاقة فريدة في تاريخ الأدب العربي.. وكأنها إحدى أساطيره الغامضة!

أسماه البعض بالحب السماوي الذي يحلق عاليًا في فضاء الفكر والسمو والعفة.. ووصفه البعض بأنه محض "خيال" أو وهم جميل عاشه العاشقان عن بعد دون أن يرى أحدهما الآخر ولو لمرة واحدة في حياته!!

ورغم كل ذلك فقد تركت هذه العلاقة الفريدة العجيبة تراثًا أدبيًا رفيع المستوى تمثل في تلك الرسائل الرائعة المتبادلة بين مي.. وجبران.

إنها ثروة أدبية حقيقية من نصوص كتبها أديبان توهج قلباهما بالحب.. واحترق بالغربة.. وتعذب بالحرمان.

وفي هذه الرسائل إجابة عن الكثير من التساؤلات الحائرة عن مي الإنسانة.. المرأة.. الحبيبة التي ظلت لغزًا غامضًا أمام الكثيرين من معاصريها.. وكذلك من الأجيال التالية لجيلها.

فقد سبقت مي عصرها بفكر متوثب وإبداع متوهج لكنها رغم ذلك ظلت _ حتى آخر يوم في عمرها _ امرأة شرقية محافظة حتى النخاع. فلم يستطع التحرر الفكري والثقافة المنفتحة على ثقافات العالم أن تنتزع ولو قليلًا من التزامها الأخلاقي أو الديني. ولم يمنحها نبوغها ترف أن تخرج على تقاليد وعادات الشرق. فقد كانت صارمة جدًا مع نفسها.

أما هذا الحبيب الذي صنعته من وهم وحرمان ورغبات مكبوتة.. أقصد الأديب والشاعر والفنان اللبناني جبران خليل جبران فكان مختلفًا كثيرًا عنها من حيث التركيبة الفكرية والإنسانية. رغم توحد مشاعرهما وتقارب معاناتهما في الغربة والوحدة ورهافة الإحساس التي تميزت بها مي كما تميز بها جبران.

جبران الذي عاش حياته حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية. فتعود الحرية في كل شيء ومارس التعبير عن ذاته وإطلاق العنان لمشاعره دون تحفظ أو خوف. كان يريدها أن تحبه بنفس طريقته.. بلا تحفظات.. بلا تردد أو تعقل بل أن تعيش الحب بجنونه وتستجيب لنداء القلب والروح والجسد.

وكان قد رأى ذلك كثيرًا وعرفه في الحياة الغربية التي عاش داخلها معظم رحلة حياته.. وكانت له صديقات في غربته، وعاش قصص حب قبل أ، يقع في حب مي.. لكن الحب كما عرفه ومارسه لم يكن هو ذلك الحب الذي عاشه مع مي من خلال رسائل تحمل مشاعر إنسانية استثنائية في كل شيء حتى في عواطفها!

ونما الحب في قلبيهما.. وتأجج ولم يكن هناك إلا الأوراق المتبادلة بينهما هي من مصر.. وهو من الولايات المتحدة الأمريكية.. طوفان من المشاعر المشتعلة بالحرمان.. المصطدمة دائمًا بحائط المستحيل!

اللقاء الأول بينهما كان لقاءً على الورق.. بدأته مي برسالة من قارئة وأديبة إلى أديب كبير. كانت قد انتهت من قراءة قصة جبران خليل جبران " مرتا البانية" فكتبت إليه خطابًا تعرفه بنفسها أولًا ثم تعلق على هذه الرواية فماذا قالت له مي في هذا الخطاب:

أمضي مي بالعربية وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الأول و الأخير من اسمي الحقيقي الذي هو: ماري. وأمضي " إيزيس كوبيا" بالفرنجية، غير أن لا هذا اسمي ولا ذاك، إني وحيدة والدي وإن تعددت ألقابي.

حدثته في هذا الخطاب الأول الذي أرسلته له في عام 1912 عن ديوانها الشعري الأول " أزاهير حلم" الذي كتبته بالفرنسية وكلمته عن حياتها في مصر التي استقرت فيها مع والديها وعن مقالاتها في الجرائد والمجلات العربية.

وتلقى جبران رسالة مي الأولى بفرح، وكتب إليها مشجعًا استمرار المراسلة بينهما، فأهداها روايته الجديدة " الأجنحة المتكسرة ".

لم تصدق مي نفسها وهي ترى مظروفًا مكتوبًا عليه اسم " جبران خليل جبران ".. وتفتحه لتجد خطابًا منه بخط يده ونسخة من روايته موقعة على إهداء رقيق من الأديب الكبير إليها. طارت من الفرحة وجلست مع روايته.. بل غرقت بين سطورها تحاول أن تدخل في أعماق الحرف وثنايا الكلمة.. ربما وجدته وأمسكت بهذه الروح البعيدة التي تشعر بها قريبة جدًا إلى قلبها وعقلها معًا.

انتهت الرواية، ولكن روايتها هي مع هذا الغريب القريب بدأت بخطاب منها تكتب فيه رأيها في الرواية بصراحة وتتوقف عند نقاط الاختلاف الرئيسية بينها وبين جبران " إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران، أنا احترم أفكارك، وأجلّ مبادئك لأنني أعرفك صادقًا في تعزيزها، مخلصًا في الدفاع عنها، وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة, وأشاركك في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة، فالمرأة يجب أن تكون كالرجل مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشباب.. لا مكيفة حياتها في الغالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف، حتى إذا ما انتخبت شريكًا لها تقيدت بواجبات تلك الشركة.. أنت تسمي هذه " سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال" وأنا أقول إنها سلاسل ثقيلة، نعم، ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة ما هي، فإن توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاح والتقاليد فلن يتوصل إلى كسر قيود الطبيعة لأن أحكامها فوق كل شيء.. عند الزواج تعد المرأة بالأمانة، فعندما تجتمع سرًا برجل آخر تعد مذنبة إزاء المجتمع والواجب والعائلة.

يقف هذا الخلاف الفكري حاجزًا بينهما.. ورغم ذلك تظل الأديبة الفريدة بثقافاتها المتعددة وموهبتها الأصيلة ورؤيتها الناضجة بلونها المميز في الأسلوب.. ومذاق كتاباتها الخاص الذي يجمع بين تعبيرات الغرب ومفردات الشرق ووجدانياته. يظل هذا كله مركزًا للجذب الشديد بينهما. فهذا الذي بينهما ليس حبًا بالمعنى البسيط للكلمة.. بل ان علاقتهما كانت علاقة مركبة.. يتداخل فيها القرب الوجداني مع المتعة الفكرية في الحوار المكتوب بينهما.. وتمتزج المشاعر النابضة في القلب بالإعجاب الصادر من العقل. إنها علاقة فريدة.. وبديعة.. ومعذبة بقدر روعتها!

تتوقف مي عن الكتابة إلى جبران عامين كاملين بعد أ، تسلل إليها الخوف من أن يتعلق به قلبها وتتحول الصداقة الفكرية إلى حب معذب ثم تعاود المراسلة وتحكي عما أصابها في رحلتها إلى لبنان في الصيف حيث كسرت يداها أثناء ركوبها الخيل هناك.

ويرد عليها جبران معاتبًا: " حضرة الأديبة الفاضلة.. لقد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت دون خطاب منك، لكنه لم يخطر على بالي كونك شريرة.. لنعد إلى متابعة الحديث الذي بدأناه منذ عامين كيف أنت؟ وكيف حالك؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان؟).

ويجيبها جبران عن أسئلة كثيرة جاءت في خطابها إليه فيقول لها:

صحتي أشبه بحديث السكران، وقد صرفت الصيف والخريف متنقلًا في أعالي الجبال وشواطئ البحر، ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال، ومصارعة الأحلام ( تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي ).

وتقوم الحرب العالمية الأولى فتتوقف المراسلة بين مي وجبران من 1914 حتى 1919.. ثم تبدأ مي في إرسال مقلات نشرت لها في جريدة المقتطف.. ويرد جبران عليها في خطاب أرسله مع بداية عام 1919 يقول فيه:

وجدت في مقالاتك سربًا من تلك الميول والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي. إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك، وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب.. وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية، ولكن لي سؤال أستأذنك بطرحه: ألا يجيء يوم يا ترى تنصرف فيه مواهبك السامية عن البحث في ماضي الأيام إلى أسرار نفسك واختباراتها الخاصة؟ أليس الإبداع أبقى من البحث في المبدعين.. أنا كواحد من المعجبين بك أفضل أن أقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون, فإنك تدلينني على شيء عمومي عقلي.. إني أشعر بأن الفن، والفن إظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح، هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة في البحث ".

ويدفعها جبران إلى الكتابة الإبداعية التي يراها أبقى وأهم من الكتابة عن الفنون وعن المبدعين فيقول لها " ليس ما تقدم سوى شكل من أشكال الاستعطاف باسم الفن، فأنا أستعطفك لأنني أريد أن استميلك إلى تلك الحقول السحرية، حيث أخواتك اللواتي بنين سلمًا من الذهب والعاج بين الأرض والسماء. أرجو أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك المخلص جبران خليل جبران ".

ويصدر جبران خليل جبران كتابه الجديد " المجنون".. وكالعادة تكون نسخة مي الموقعة بإهدائه واسمه على رأس قائمة النسخ المهداة. وفور وصوله إليها.. تقرأه ليس بعينيها وفكرها.. بل بكل نبضة في كيانها.. فكتاب جبران هو الجزء الوحيد المادي الذي يجسد هذا الإنسان الهلامي بالنسبة لها.. تقرأه بكل تركيز وغوص.. وترد في خطاب إلى جبران على ما جاء في هذا الكتاب:

لك أجد في كتابك ملاذًا سماويًا بل أثار في الرهبة والخوف أهذه هي كهوف روحك؟

فيرد جبران عليها في خطاب: ماذا أقول عن كهوف روحي؟ تلك الكهوف التي تخيفك، إني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة وحقولهم المزهرة وغاياتهم المتعرشة، إني أدخل كهوف روحي عندما لا أجد مكانًا آخر أسند إليه رأسي، ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع على ركبتيه وهو يصلي.

وتعود " مي " إلى التوقف والتراجع عن الاستمرار في هذه العلاقة التي أصبحت تسيطر على وجدانها.. وتؤثر الإنسحاب من هذا الحب المستحيل.. تتوقف عن المراسلة لمدة ثلاثة أشهر حتى يصلها كتاب جبران " المواكب" مع رسالته التي تحمل سطورًا قليلة في 10 مايو 1919 يقول فيها: " والعمل كما تجدينه حلم لم يزل نصفه ضبابًا والنصف الآخر يكاد يكون جسمًا محسوسًا، فإن استحسنت فيه شيئًا تحول إلى الحقيقة، وإن لم تستحسني عاد إلى مثل ما كان عليه.

وتكتب إليه معجبة بأشعاره في المواكب: " رائعة قصائدك في " المواكب" سأستظهر أبياتها ذات الصور الآخاذة. أنتم أهل الفن تبرزون البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها ملوك الجوزاء، فنأتي نحن الجمهور وليس لدينا ما نتفهمها بها سوى العجز ".

ويسافر جبران في أجازة طويلة.. ثم يعود ليجد ثلاث رسائل من مي في انتظاره فتحضنها عيناه من الفرحة.. ويغمره الحنين برؤية حروفها وكلماتها وخطها الدقيق المرسوم.. فيقرأها مرات ومرات.. يتنفس في رائحة الأرواق رائحة مي وأنفاسها العذبة.. ويجلس منفردًا ويكتب لها أجمل خطاب.. تنطق كل كلمة فيه بمعنى الحب والحرمان والافتقاد.. وتتدفق مشاعر الكاتب الفنان صادقة.. صارخة.. متوسلة بقاء الحبيب.. وعدم القطيعة أو البعاد.

10 / 7 / 1919.. رسالة جبران إلى مي:


رجعت اليوم من سفري فوجدت رسائلك الثلاث بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت، فانصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغيًا إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف، لأنني وجدت في رسالتك بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها، ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم؟ وكيف أحول عيني عن شجرة زهرة إلى ظل من أغصانها؟

إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة، فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا ألا ضيف مترًا واحدًا إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد، يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب، وعندي أ، فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة.

"ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها، فهي مثل نهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنحًا في وادي أحلامي, بل هي كالأوتار..".

كلمات في رسالة جبران يطغى عليها الفرح لعودة المراسلات بينه وبين " مي" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.. يرسل إليها خطابه ومعه كتاب " المجنون" فترسل مي خطابًا عنيفًا تنتقد فيه كأديبة وناقدة إسلوب جبران الذي جاء على لسان بطل روايته.. وتنهي خطابها بجملة شديدة العنف " أهذا هو المجنون.. هو أنت المجنون..".

ولا يغضب جبران من عنف مي في رسالتها.. فهو يفهم جيدًا أن ما كتبته جاء من الأديبة وليس من الحبيبة الساذجة التي تمتدح الإنسان الذي تحبه بمناسبة وبدون مناسبة. فمي الأديبة والناقدة تحب بشكل مختلف.. وتحاور هذا الحبيب الأديب بلغة الفكر المشتركة بينهما وهي على ثقة إنه سيفهمها ولن يغضبه نقدها مهما كان قاسيًا.. فهو يعلم جيدًا أن تلك القسوة هي التعبير عن منتهى حبها له وحرصها على أن تخرج أعماله الإبداعية في أكمل صورة.

ويجيب جبران مبررًا: " المجنون ليس أنا بكليتي، واللذة التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع، واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست باللهجة التي اتخدها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه. وإذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يخدمك عن اتخاذ فتى الغاب في كتابه " المواكب" لهذه الغاية بدلًا من " المجنون؟".

ويعيش الأديبان العاشقان مشاعر فرحة عودة الحبيب إلى الحبيب بعد فترة انقطاع طويلة سببتها الحرب العالمية الأولى وقطع سبل المواصلات بين مصر والعالم وكانت رسائل جبران في تلك الفترة من أروع الآثار الأدبية في أدب الرسائل.. فكتب يقول:

لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خري وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبًا إثر مركب. تلك الاشباح التي ما ثار البركان في أوربا حتى أنزوت محتجة بالسكوت، وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله!

هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي، هنالك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس.

فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم إتخذت بلادي بلادًا لها وقومي قومًا لها، هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كلما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ، وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة.

وتعود مي إلى التوقف عن المراسلة لفترة خوفًا من أن تغوص أكثر في أعماق تلك المشاعر المستحيلة.. وعندما تفتقد تلك الشحنات القادمة عبر المحيط.. رسائل جبران.. يتحرك داخلها الحنين إلى أوراقه وسطوره وكلماته الرائعة.. فتكتب له لتحاول استعادة هذه العلاقة الفكرية والأدبية بينها وبين جبران.. وأن تجمد الجانب الآخر.. الجانب الذي كانت تراه معذبًا ومستحيلًا بالنسبة لتركيبتها الخاصة.. وظروفها العائلية كوحيدة والديها.. وخاصة ان ارتباطها بوالديها كان قويًا وعميقًا.

وتقول مي لجبران في خطاب كتبته لتوضح فيه كل ذلك.. وتحاول استبقائه في حياتها على الأقل في خانة: الصديق العزيز. تقول مي:

لما كنت أجلس للكتابة أنسى من وأين أنت، وكثيرًا ما أنسى حتى أن هناك شخصًا، ان هناك رجلًا أخاطبه فأكلمك كما أكلم نفسي وأحيانًا كانك رفيقة لي في المدرسة. أنما كانت تطفو تلك الحالة المعنوية عاطفة احترام خاص لا توجد عادة بين رجل وفتاة. أتكون المسافة وعدم التعاون الشخصي والبحار المنبسطة بيننا هي التي كانت تلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال؟ قد يكون.

غير أن مكانتك في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت منذ نشأتها كأنها فطرية بديهية لم تنتظر الوقت لتقوى ولا التجربة لتثبت؟ فوصلت الرسالة التي سبقت " النشيد الغنائي ". وكنت في الاسكندرية إزاء البحر الذي يجلب التأمل وينمي حب الاختلاء. ولم أشأ أن أجعل لمعنى النشيد أهمية خطيرة فكتبت أقول: أنا أردت أن تحصر مراسلاتنا في مواضيع فكرية. فقلت لك صريحًا أنني ألتمس في رسائلك الفائدة التي أطلبها في كل مكان...

وتبرر مي موقفها لجبران فتقول:

أنت قيدتني ( مذنبة) في دفترك، وقمت تشكو لأني كلما " حدقت في شيء أخفيه وراء القناع، وكلما مددت يدًا أثقبها بمسمار ".نعم فعلت ذلك متعمدة. تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح وروح وصرت أحرف المعاني وأمسخ الأسئلة وأضحك عند الكلمات التي تملأ العينين دموعًا. وهل كان لدي وسيلة أخرى لأحولك عن هذا الموضوع وأذكرك إني وحيدة أبواي؟

قد لا يكون في العائلة الغربية إلا ولد فيقذفون به من إنكلترا إلى الهند، أو فتاة واحدة فترحل من فرنسا إلى الصين بلا جلبة ولا ضوضاء. ولكن أين نحن من هؤلاء، ونحن شرقيون.

تعمدت ذلك خصوصًا لأوفر على نفسي عذابًا هي في غنى عنه ولأتحايد كل كلمة تقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكًا وعلقمًا في هذه السنوات الماضية. ففهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمته على وجه لم أقصده. ثم سطت عليك الكبرياء. كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة نحن اللذين تكاتبنا أبدًا كصديقين مفكرين. نسيت أن الموضوع الآخر جاء عرضًا. وما دام إنه لم يكن الأصل فقد كان له أن يتلاشى دون أن يؤثر في علاقاتنا الأدبية الفكرية.أما صدق القائلون إن صداقة الرجل والمرأة رابع المستحيلات. آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فاعلمني انك لم تشاركني إرتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية لأنك لو كنت سعيدًا بها مثلي، لما كنت رميت إلى أبعد منها.علمت إنني كنت وحدي حيث كنت أظننا اثنين.. وقدرتك أنك لم تحسب تلك سوى مقدمة وأنا كنت أقدرها لذاتها. وصار معنى سكوتك عندي " أما ذاك وأما لا شيء.. وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي ".

ويتوقف جبران عن مراسلة مي.. ثم ينشغل في كتابه الجديد.. فينتاب مي القلق والخوف.. وتبدأ في لوم نفسها.. لقد كنت عنيفة مع جبران أكثر مما يجب! لماذا أنبته كل هذا التأنيب.. وماذا فعل معي حتى يستحق كل هذا؟! أنا المخطئة ولا بد أن أكتب إليه.. وأطلب منه العفو والغفران عما بدر مني في تلك الرسالة الشديدة اللهجة.

وعندما وصلت رسالة " مي" إلى جبران ابتسم.. وأمسك بالقلم على الفور ليرد على رسالتها:

لقد ابتسمت كثيرًا منذ هذا الصباح. وها أنا أبتسم في أعماقي، وابتسم بكليتي، وابتسم طويلًا، وابتسم كأني لم أخلق إلا للابتسام.. أما العفو فلفظة هائلة أوقعتني متهيبًا خجولًا. إن الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد لهي أقرب إلى الملائكة من البشر..

أما المسيء وحدي، وقد اسأت في سكوتي وفي قنوطي.. لذلك استعطفك أن تغفري لي ما فرط مني وأن تسامحيني.
 

عيون المها

كاتب جيد جدا
رد: هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

مااحلى جبران وقلمو لجبران
تسلمى اختى بما طرحتى
لانو من الادباء الفريدين وانا بحبو كتير
لك محبتى
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
 

همس القمر

كاتب جيد جدا
رد: هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

موضوع متميز استمتعت بقراءته
شكرا كتير لطرحه
 

rmashka222

كاتب جيد
رد: هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

بداية موفقة في قمة الروعة . قصة مازال المطر يرددها أحلام ولدت ولم تموت ...كلماتك تغتال صمتي ؟؟؟\لاتقيديني <مذنب > في دفاترك
 

فتى الشرق

كاتب جيد جدا
رد: هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

[align=CENTER][table1="width:95%;background-color:sienna;border:3px solid burlywood;"][cell="filter:;"][align=center]
[..جبران خليل جبران ..]
موسوعــة آرواح في جسدِ وآحد ،،

منحتهُ السماء ما لم تمنح اجيالاً ،،

كائن روحاني ..

كيف لا ،، وهو الرجل الذي احبَّ امرأة [ مي زيادة ] لم يرها يوماً ..

لم يعرف منها سوى بضعَ خربشاتٍ على ورقٍ ابيض ...

رسمها ،، وتخيلها ،، وحاورها ،، ولم يرها ..

روحٌ فريدة في دنيا اجساد ،،

لا تعترف بـ كل هذا ..

[ صمت الرمال ] ..

جمال فريد ،، شكرا لكِ

وآهلآ بتواجدك المميز معنا :eh_s(17):
[/align][/cell][/table1][/align]
 

صمت الرمال

كاتب جديد
رد: هل احب جبران مي وهل احبت مي جبران؟

اشكركم على ردودكم المميزة ودمتم سالمين
 
أعلى